الأحد، 19 مايو 2013

التعليم في زاوية الهامل قبل استقلال الجزائر



التعليم في زاوية الهامل قبل استقلال الجزائر
Teaching in Zawiya Al Hamel before the independence of Algeria
L’enseignement à la Zawiya d’El Hamel avant l’indépendance de l’Algérie

محمد فؤاد القاسمي الحسني
KACIMI EL HASSANI Mohamed Foued
This paper is based on a speech delivered at the Institute of Asian Cultures, Sophia University, Tokyo, Japan ; on May 19.2012
Published by the journal of Sophia Asian Studies N° 30 (2012)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (القرآن الكريم، طه: 114)
َلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ} (حديث نبوي)

1-1 ديباجة

الهامل01 قرية نائية في جبال الهضاب العليا في الجنوب الجزائري، أسّس فيها محمد بن أبي القاسم02 زاويته قرنا قبل استقلال الجزائر، يروى أنّ أحد الحكام الفرنسيين قدم للتعرّف على الشيخ فلم يستقبله، وأرسل إليه مبلغا من المال، فغضب الحاكم وقال لم: نأت طمعا في مال الشيخ، فقال الشيخ: فما الذي جاء بكم من وراء البحر إلى بلدنا.
اختار الشيخ التعليم وسيلة لمقاومة الاحتلال الفرنسي، فركّز جهوده عليه، وأنفق ماله فيه، حتّى بلغ تمويله للعلم والعلماء مشرق العالم العربي ومغربه03، وقصده أهل العلم من بقاع شتىّ. يروى أنّ بعض طلبته سألوه أن يظهر لهم كرامة04 كما اعتادوا سماع ذلك عن الأولياء05، فقال: كرامتي هي أن صار في كل بيت حفظة لكتاب الله، وأنّكم تسمعون كتاب الله يتلى من الهامل إلى بوسعادة، بعد أن كان لا أحد يقرأ حرفا إلاّ إذا سافر برسالته مسيرة يومين06.
إنّ القرآن الكريم هو مدار فلك التعليم في الزوايا عموما، ولا يوجد علم يدرّس فيها إلاّ وله ارتباط وثيق به، فهو المبدأ وهو الغاية.
يقرأون قواعد اللغة العربية من نحو وصرف لفهم ما تيسّر من القرآن، ويقرأون الأدب والشعر العربي لمعرفة البيان والبلاغة في القرآن، ويقرأون الحديث النبوي لتفسير القرآن، ويقرأون المنطق والفلك لمعرفة أوقات الفرائض المأمور بها في القرآن، ويقرأون الحساب والرياضيات لأداء الزكاة المفروضة في القرآن، ولحساب المواريث والمناسخات07 الواجبة بأمر القرآن، ويقرأون علوم الطبيعة لحفظ نسل البشر وبقية المخلوقات إعمارا للأرض كما ورد في القرآن الكريم، وغير ذلك مما لا تسعه هذه المقدّمة.
لذلك نجد تحفيظ القرآن الكريم في زاوية الهامل هو المادة الواجبة التي يقوم عليها التعليم ويقوم عليها وجود الزاوية، وبدونه لا تكون، فربما توقفت بعض الدروس والمواد لظروف أمنية أو سياسية أو اقتصادية ما، إلاّ تعليم القرآن فهو بحمد الله ما لم ينقطع أبدا.
ولهذا تكفّلت الزاوية بمعظم مستويات التعليم، بدأً بمحو الأميّة وصولا إلى مستوى العالِمية08.

2-1 نظام طلبة العلم (السفارة)

لطلبة الزاوية نظام داخليّ يحكمهم يُسمّى (السفارة). ويخضع الطلبة في هذا النظام إلى ترتيب يوجب عليهم التقيّد به والعمل بما فيه، لتحديد فئات الطلبة من الأعلى إلى الأدنى، وما يقتضيه ذلك من احترام وطاعة والتزام. ويترتّب طلبة القرآن الكريم حسب حفظهم؛
فالأوائل المقدّمون هم حفظة القرآن الكريم، وهؤلاء يعينون شيخهم في تعليم بقيّة الطلبة، بالتكتيب والتجويد والتصحيح. يليهم المعيدون وهم الذين لم يحفظوا القرآن بعد، وإنّما شقّوه، وهم بصدد إعادته. ثمّ المبتدئون. فإذا جلس الطلبة في حلقة الحزب الراتب09، جلس الحفّاظ حول المعلّم، ثمّ المعيدون، ثمّ المبتدؤون. وكانت هذه الحلقة تعقد بعد صلاة الصبح ويتلون فيها حزبا، وبين العشاءين، يتلون ثلاثة أحزاب، وغيّر توقيت الأولى في الثورة10 إلى قبيل صلاة العصر، واستمرّ الحال إلى اليوم. وكان الطلبة يتقاسمون ليلة الجمعة أجزاء القرآن الكريم فيختموه ثلاث مرّات11.
وأمّا ترتيب طلبة العلم، فيأتي في المصفّ الأوّل؛
النظّارون وهم الذين درسوا المتون بشروحها، وهم بمثابة الطلبة الجامعيّين، ينوبون عن الشيخ في حال الغياب، وأحيانا بحضوره وفي مجلسه، ويعلّمون السبّاقين وغيرهم بتوجيه من شيخ الزاوية.ويسمّي البعض هذه الفئة الدوالين، جمع دوّال. وهو من ينوب عن الشيخ في الدالة، والدالة هي الحصّة التعليميّة.
والسبّاقون هم كطلبة التعليم الثانوي، وهؤلاء يرخّص لهم الشيخ في استعمال شروح المتون، وقد يأذن الشيخ للمتفوّقين منهم بتقرير الدرس للحجّارين.
ويليهم الحجّارون، وهم كتلاميذ التعليم المتوسّط، يؤذن لهم باستعمال المتن محلّ الدرس إن لم يكن محفوظا، والغالب على هؤلاء أن يكونوا من المبتدئين في قراءة الشروح، بعد أن حفظوا القرآن الكريم.
وأخيرا المبتدئون، وهم الذين شرعوا في تعلّم حروف الهجاء إلى منهم في طور حفظ القرآن الكريم، وهذه كمرحلة التعليم الابتدائي.
فإذا جلس هؤلاء في حلقة الدرس، جلس النظّارون حول الشيخ، ثمّ السبّاقون، ثمّ الحجّارون.هذا، وقد يكون الواحد من الطلبة نظّارًا في علم، سبّاقًا في علم آخر، وحجّارًا في علم ثالث.
إذن، وبعد أن تقرّرت لدينا منزلة القرآن من التعليم في الزاوية، وبعد أن ألقينا نظرة على نظام الطلبة وترتيبهم، سنتتبّع بالتدريج مراحل تحصيلهم للعلم فيها.

2-2 المرحلة الأولى من التعليم (الابتدائي)

لا شكّ أنّ أوّل ما يتعلّمه الطالب في الكتّاب هو أحرف الهجاء، وكانوا يستعملون أسلوب التلقين أوّلا، ويكون ذلك بوصف الحروف بلحن على شكل أهازيج يحفظها الطالب، كقولهم:
الالف لا شان عليه والبا تنقط من تحت...
ثمّ يتعلّم رسمها بعد ذلك بالكتابة على اللوح12، وباستعمال القلم13، والأحبار14، ويمحى اللوح بعد الكتابة بالصلصال15.
وكان الترتيب المعمول به آنذاك في أبجديّة اللغة العربيّة هو الترتيب المغربيّ الآتي:
أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ط ظ ك ل م ن ص ض ع غ ف ق س ش هـ و لا ي ء.
انحسرهذا الترتيب الآن في الكتاتيب16 فقط وحلّ بدله في المدارس الترتيب المشرقيّ.
وبعد أن يتقن الطالب حفظ حروف الهجاء نطقا ورسما، ينتقل إلى حفظ القرآن الكريم صعودا، من الناس إلى نصف القرآن، حتّى إذا أتمّ قيل شقّه، ثمّ يحفظه نزولا من البقرة إلى الناس، قيل أعاده، فهو معيد.، ثمّ يعاود صعودا، وبعد ذلك يُسمّى حافظا لكتاب الله. ولم نذكر الفاتحة لأنّها فرض لا تصحّ الصلاة بدونها.
وكان من عادة معلّمي القرآن كلّما حفظ طالب من الطلبة الصغار ثُمُنا17، وضعوا له وسادة يجلس عليها، فيستشرف بذلك على غيره، ويشجّعه على الحفظ، كما يبعث في غيره روح المنافسة، فإذا حفظ ثمنا آخر، زاد المعلّم له وسادة غير الأولى، دواليك حتّى يعلو أقرانه ويزداد حرصا هو وغيره.
وكان في الثلاثينيّات من القرن الفارط يفرض على الطالب الذي يشقّ القرآن حفظ نصف ثمن في اليوم مع رسمه وفق رواية ورش عن نافع18 وبوقوف الهبطي19، يكتب في اللّوحة بحروف كبيرة واضحة، مع علامات الوقف والمدّ والإمالة وبقيّة الحركات20. ويلزم المعيد بحفظ نصف ثمن. ثمّ صار الأمر بعد ذلك مقتصرا على حفظ ثمن في اليوم، وللمعيد ربعا. وطريقة الحفظ كانت بأن يكرّر الطالب ما كتب في اللوح ثلاثمائة مرّة، فإذا بلغ العدد حفظ ما قرأ لا محالة.
وممّا كان في ذلك العهد أن يملي أحد الطلبة المعيدين الثمن أو غيره على الطالب فيكتبه في لوحه، ثمّ يراجعه له من الحفظة لكتاب الله تعالى، ويصحّحه بقدر علمه وحفظه، ثمّ يعرضه في الأخير على المعلّم الذي يصحّحه التصحيح النهائيّ مع الضبط.
ومن بين وسائل التعليم الناجعة جدّا في الزاوية هي القراءة الجماعية للقرآن، الحزب الراتب كما أسلفنا، وهي الحلقة التي تنعقد كلّ يوم على مدار العام، في الصباح والمساء، وتستغرق من الوقت في كلّ مرّة نحو أربعين دقيقة، يستفيد منها الطالب تصحيح قراءته، واستذكار ما نسيه، وحفظ ما لم يحفظه. ويختم القرآن بهذا النسق مرتين في الشهر الهجري، فتكون الحلقة في أول الشهر بعدد أقل من الطلبة، ثمّ ينضمّ إليها كلّ يوم آخرون ممن أدركوا ذلك الحزب بالحفظ، فلا ينقضي الشهر حتى تكون الحلقة قد استوعبت كلّ الطلبة.
كما تستفيد من هذه القراءة الجماعية فئة من المجتمع مهمّة، وهي فئة المكفوفين، فهم لا يجدون من يتفرغ لتلقينهم القرآن وبقية العلوم تلقينا خاصا بهم، وبالتالي ينضمّون إلى حلقات القراءة الجماعية ليحفظوا القرآن الكريم بالسماع، ومعلوم أن قدرة المكفوفين على الحفظ السريع عالية، بحكم خلو ذاكرتهم من الصور التي تحجز الحيّز الأكبر منها. فنجد عددا لا بأس به قد تخرّج من الزاوية عالما ومعلما من هذه الفئة21.
كان نظام التعليم في الزاوية آنذاك يخضع لمنهج فيه شيء من مراكمة التلقين، إذ كانوا يكتبون مع كلّ ثمن في اللّوح22 عشرة أو عشرين بيتا، أو قدر ذلك من المتون العلميّة، كمتن ابن عاشر والأجروميّة وألفيّة ابن مالك وجوهرة التوحيد ومختصر خليل، والشاطبية ونحوها، فلا يختم الطالب حفظ القرآن الكريم حتّى يكون قد حفظ من المتون ما شاء الله له. ثمّ يلتحق بعد ذلك بحلقة العلم، للشروع في فهم وإدراك ما حفظه.
ومرحلة حفظ القرآن الكريم حفظا متقنا كانت تستغرق عامين إلى ثلاثة أعوام، إذا كان الطالب مجتهدا ومواظبا. وربّما تأخّر بعضهم إلى أكثر من ذلك.وإلى الآن يكتفي كثير من الطلبة بهذا المستوى، إذ غاية معظمهم تعلّم القراءة وحفظ القرآن الكريم.

2-3 المرحلة الثانية من التعليم (المتوسط)

بعد أن يجيد الطالب حفظ القرآن الكريم وتلاوته، وحفظ المتون العلميّة، وما يسمّى بعلوم الآلة23، يشرع في دراستها شرحا وتحليلا، فيأخذ في علوم القرآن متن الشاطبية24، ومورد الظمآن للشريشي، الشهير بالخراز25، بشرح ابن عاشر26، ويأخذ في الفقه كتاب المرشد المعين إلى الضروريّ من علوم الدين، المعروف بمتن ابن عاشر في الفقه المالكيّ27. ثمّ يقرأ شرحه المسمّى ميّارة الصغرى28، ومتن الأجروميّة29، وفيه أهمّ قواعد اللّغة العربيّة، ويقرأ شرح المكودي له30. كما يقرأ كتاب مراح الأرواح لحسام الدين31 في الصرف. ويقرأويحفظ في التوحيد أمّ البراهين للإمام السنوسيّ مع شرحه لها32.
ويتولّى تعليم هذا المستوى من الطلبة السبّاقون والنظّارون33   وبعض من الأساتذة الذين يوليهم الشيخ هذا الأمر. وهنا التعليم يبدو مركّبا، فهو من جهة تعليم للأطفال مبادئ الشريعة، ومن جهة أخرى تعليم للكبار طرق وأساليب التدريس في سنة التخرّج، تدريبا لهم وإفادة لغيرهم.

2-4 المرحلة الثالثة من التعليم (الثانوي)

أمّا في المستوى الثالث، فيدرسون رسالة ابن أبي زيد القيرواني، في الفقه المالكيّ34، وشرح أبي الحسن عليه35، ويتولّى درسه أحد الشيوخ، أو أحد النظّارين. ويدرسون ملحة الإعراب في علوم العربيّة للإمام الحريريّ36، مع شرح الإمام بحرق37.إلى جانب قطر الندى وبلّ الصدى في قواعد اللّغة أيضا38، ثمّ يحفظون جوهرة التوحيد لإبراهيم اللقّانيّ39، ويدرسون شرح ابنه عبد السلام لها40. إلى جانب دروس المنطق كنظم الشيخ عبد الرحمن الأخضري السلم المرونق في علم المنطق41، ومختصر السنوسي42.
والمعمول به آنذاك، هو أن يحفظ الطلبة متون هذه الكتب قدر الاستطاعة، ويدرسون شروحها، ويشرعون بالموازاة مع ذلك في قراءة المعلّقات43 وحفظها ودراستها بشرح الشنتمريّ44. وإلى جانب المعلّقات، يحفظ الطلبة قصائد البردة والهمزيّة والمضريّة وبانت سعاد45، وغيرها من المدائح النبويّة التي تنشد في المولد النبويّ الشريف46.

2-5 المرحلة الرابعة من التعليم (الجامعي)

وفي المستوى الرابع يتفرّغ الطلبة إلى دراسة مختصر خليـل بن إسحاق الجنديّ، في فروع المالكيّة47؛ والمعتمد من شروحه في الزاوية هو حاشية الدسوقي48 على الشرح الكبير للإمام الدردير49. وفي اللغة ألفيّة ابن مالك50 مع حاشية الصبّان51 على الأشمونيّ52، وشرح المكودي53، وفي المنطق جمل الخونجي54، والتهذيب للسعد التفتازاني55، والشمسية56 بشرح قطب الدين الرازي57، وفي العقيدة وأصول الفقه كتاب ابن الحاجب الأصلي58 الذي شرحه التتائي59، والورقات للإمام الجويني بشروحها60، وفرائض التلمساني61، وكتاب مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول62، كل هذه الدروس تقرأ على مدار السنة. إلاّ مختصر خليل، فإنّ له وقتا خاصّا به هو فصل الشتاء، ولافتتاح تدريسه حفل خاص، يحضره شيخ الزاوية، وجمع غفير من الطلبة، وأيمّة المساجد في الهامل وضواحيه، وأعيان البلدة، وحتّى الصبيان، لترسخ في ذاكرتهم، وتحفّزهم على اللحوق بركب المتعلّمين. يفتتح الحفل بتلاوة آيات من القرآن الكريم، ثمّ تقرأ مقدّمة المختصر، ويقوم شيخ الزاوية بشرحها، ثمّ تتلى آيات من الذكر الحكيم، ويدعو بعد ذلك الشيخ للطلبة وأساتذتهم بالتوفيق في تحصيلهم وتعليمهم. وتوزّع الحلوى والمكسّرات وبعض المشروبات كالشاي والقهوة على الأولاد والحاضرين. وهذا التقليد أرسخه الأستاذ الشيخ محمد بن أبي القاسم مؤسّس زاوية الهامل منذ فتح زاويته الأولى بالمسجد العتيق في الهامل. ومازال معمولا به إلى اليوم.

2-6 المرحلة الخامسة من التعليم (العالي)

أمّا التعليم العالي فكانت حلقات63 العلم فيه بزاوية الهامل متنوّعة، في فنونها وفي مواسمها وفي شيوخها، القارّين منهم والزائرين. فكان يخصّص فصل الشتاء لدرس مختصر خليل وحده، ويخصّص الربيع لتفسير القرآن الكريم، والمعتمد فيه تفسيرا الواحديّ64 والبيضاويّ65. وأيضا الحديث النبويّ الشريف، وكانوا يولون عناية بالموطّأ66 والبخاريّ67 ومسلم68. وكان لرجال الزاوية عناية كبيرة بالحديث، ولاسيما صحيح الإمام البخاريّ، إذ يقرأ على سبيل التعبّد، فيختم أحيانا في ليلة. كما يقرأ للعلم، والحالة هذه تنعقد حلقة العلم، ويأمر الشيخ أحد القارئين، وهو الدّوال، بسرد الصحيح، فإن استوقف الشيخَ حديثٌ رأى وجوب شرحه، أو سأل أحد الطلبة عن ما تعذّر عليه فهمه منه، استهلّ الشيخ في شرحه بما فتح الله عليه فيه. فيستغرق أحيانا شرح حديث واحد ساعة الدرس، وقد يُقرأ فصل كامل بدون توقف أو شرح69.
كما كانت لهم عناية بالأربعين النوويّة70، حفظا وقراءة وشرحا، وبكتاب الشفاء للقاضي عياض71 والجامع الصغير72، وألفية العراقي في مصطلح الحديث73، وشمائل الترمذيّ74 والمواهب اللّدنيّة قراءة وشرحا75. وتسرد في شهر ربيع الأوّل السيرة النبويّة لابن هشام76، فضلا عن مولد البرزنجي في ليلة المولد77، ومجالس العروسيّ78. وفي التصوّف تقرأ المنظومة الرحمانيّة79 وشرحها لباش تارزيّ80، والوصيّة الجليّة للشيخ مصطفى البكريّ81، والحكم العطائيّة82، وكلّ هذه الدروس تعقد في حلقة عامّة بالمسجد الجامع في الزاوية.
أمّا الدروس الخاصّة، فتعقد في بيوت المشايخ لبعض الطلبة الذين يختارهم الأساتذة، والاختيار يقع من الأستاذ بناء على المستوى العلميّ للطالب وسيرته وصحّة عقيدته ونباهته وذكائه ومدى طموحه إلى التحصيل.
فكانت تدرس في هذه الحلقات الخاصّة كتب كبار الصوفيّة بالدرجة الأولى، كالقشيريّ83 والسهرورديّ84 وابن عربيّ85، ويتناولون بالبحث والتدقيق مسائل اللغة والبلاغة والشعر والخلاف المذهبي  والعقدي، والخلاف بين النحويين من الكوفة والبصرة، ومقارنة الأديان، بمطالعة ومراجعة الكتب المقدّسة كالتوراة والإنجيل، وغير ذلك كثير، حتّى تأخذ هذه الحلقات أحيانا طابع الندوات العلميّة، أو المجالس الأدبية التي تكون فيها المطارحات الشعرية والسجال، وما إليها من فنون الأدب، وهذا ما نلمسه في أشعار الديسي والخنقي والمكي وغيرهم86، وبعض مراسلات الطلبة والشيوخ الذين ضمّتهم هذه المجالس العلمية في زاوية الهامل.
ومن أهمّ الندوات العلميّة التي كانت تعقد في الزاوية هي التي ينشّطها أحد الشيوخ الزائرين من كبار العلماء، والتي يُدعى لأجل حضورهم مشايخ الزوايا المجاورة والأئمة والطلبة الكبار، كالحلقات التي تنظّم بمجيئ الشيخ محمّد المكي بن عزوز87 والشيخ عبد الحميد بن باديس88 والشيخ عاشور الخنقيّ89 والشيخ محمد عبد الحي الكتانيّ90، والشيخ محمد الحجويّ91، والشيخ أحمد توفيق المدنيّ92 والشيخ محمد البشير الإبراهيميّ93، والشيخ محمد الصغير الجلاليّ94، والشيخ الطاهر العبيديّ95، والشيخ شعيب التلمسانيّ96، والشيخ الأمير الهاشميّ97، والشيخ المولود الحافظيّ98، والشيخ محمد العاصميّ99، والشيخ أحمد الأمين العزوزيّ100، وكثير من العلماء الذين كانوا يتردّدون على الزاوية حينا بعد حين. وكانت تستمر هذه الحلقات العلميّة مدّة أسبوع تقريبا بالنسبة للعلماء القادمين من خارج الوطن، ولشهور بالنسبة لبعض علماء الجزائر.101
كما نلحظ آنذاك ولاسيما في مطلع القرن العشرين تبادل الكتب المطبوعة والجرائد والمجلات القادمة من مصر وتونس والمغرب وتركيا، بين هذه الطبقة من طلبة الزاوية. وهو ما جعل لكثير منهم فكرا نيّرا ملمّا بمجريات الأمور على ساحة العالم الإسلامي تحديدا وبقيّة المعمورة خصوصا بين الحربين العالميّتين.

2-7 شهادة التخرج

من ميزات التعليم في الزاوية، هو أنّ الطالب مخيّر في ما يريد تحصيله بعد أخذه للعلوم الواجبة102، فإذا كان ميله للفقه جلس في حلقات تعليم الفقه، وإذا رغب في اللغة جالس شيوخها، فقد يكون نابغا في مادة دون أخرى، وقد يكون متوسطا، وقد يكون ملمّا بكل فنون الدراسات العربية الإسلاميّة103. حيث يصدر حافظا قارئا للقرآن الكريم بقراءاته، أو لغويا نحويا، أو فقيها، أو محدّثا، أو حاسبا فرضيا، وإن كان الغالب على الطلبة هو تحصيل العلوم الإسلاميّة عموما. فإذا أتمّ الطالب تحصيله، في فنّ ما من الفنون التي درسها على شيوخه يجيزه شيوخه بما درّسوه فيه، وفي الغالب تكون الإجازة فردية من الشيخ، كأن يعطيه من علّمه الفقه إجازة في الفقه، ومن علّمه اللغة إجازة في اللغة، ومن علّمه الحديث إجازة في الحديث، وقد يعطيها شيخ علّمه كلّ تلك العلوم، كما قد يجمع هذه الإجازات كلّها شيخ الزاوية في إجازة واحدة عامّة.104
وملخّص القول؛ كان تحصيل العلم وفهمه والعمل به هو غاية الطلبة والشيوخ، غير أنّ بعضهم يرغب في توثيق مستواه للتشريف وآخر للتوظيف.

3-1 الإطار العام لطلب العلم بالزاوية

ممّا تمتاز به الزاوية عن غيرها من المؤسسات العلمية ولاسيما المعاصرة، أنّها كانت تقبل كل طالب للانضمام إلى حلقات العلم فيها دون التقيّد بشروط سنّ معيّنة أو مستوى محدّد، فالعلم متاح لمن أراد أن يطلبه سواء كان طفلا صغيرا أو شيخا متقدّما في العمر، أميّا أو صاحب تحصيل سابق من مؤسسة أخرى، كما لم تكن هناك أية طبقيّة اجتماعية بين الطلبة، فكلّهم سواسية بما فيهم أبناء الأسرة القاسمية، ولا تفرقة عنصرية سواء بين أبناء القبائل أو الأعراش المجاورة. وحتى الذين كانوا قد عُرفوا بأخلاق سيّئة، كانت الزاوية لا ترفضهم، بل تقبلهم في حلقاتها العلمية، وقد أُثر عن الشيخ محمد بن أبي القاسم مؤسّس زاوية الهامل قولته المشهورة (البارّ لي، والفاجر أنا له)، أي أنه كان يتكفّل بإعادة تربيته وتوجيهه حتى يبدو صلاحه.
وكان الطالب ملزما بدفع الاشتراك السنوي، وهو النظام الذي تركه الشيخ محمّد بن أبي القاسم، فكان رضي الله عنه إذا أتاه طالب العلم الفقير يعيره هو من ماله الخاص، ليدفعه الطالب اشتراكا سنويا لكيس الطلبة، كما كان يسمّى، ويلزمه الشيخ بإعادة ما عليه من دين، ولم تكن منه هذه الطريقة، إلاّ تحفيزا للطالب على الاعتناء بالتحصيل. إذ في حال التحاق الطالب بالزاوية دون دفع الاشتراك، مع ما يتوفّر له من إقامة ووجبات غذائية لسوف تجعله يتراخى في طلب العلم، بينما إذا كانت الإقامة والتعلّم بمقابل ماديّ، سوف يجتهد لتحصيل مطلوبه من العلم، ليتحوّل به إلى الحياة العملية فيما بعد.
وكان الاشتراك السنوي آنذاك بالعملات التي تمّ تداولها في الجزائر، من الريال العثماني والفرنك الفرنسي، وكلاهما كان من معدن الذهب، هو ما قيمته بقيمة الكبش من الغنم الآن، وهو في حدود ثلاثين ألف دينار جزائري، أي ما يعادل تقريبا أربعمائة دولار أمريكي.تدخل فيها تكاليف الإقامة من مسكن وغطاء وتدفئة، ووجبتان غذائيتان في اليوم، مع فطور الصباح، بالإضافة إلى الاستفادة من كل الفواكه الموسميّة التي تصل إلى الزاوية على مدار السنة من أراضيها الوقفية في بقاع شتّى، كالتمر والرمان والتين وغير ذلك.105
وفي الحقيقة مبلغ الاشتراك هذا يعتبر رمزيا، لأنّنا لو قسمناه على أيام السنة لكان الحاصل نحو ثمانين دينارا جزائري في اليوم، وهو المبلغ الذي لا يكفي لوجبة واحدة، فضلا عن الثانية والفطور ومستحقات السكن ورواتب الشيوخ والمعلمين والمستخدمين.106

3-2 إقامة الطلبة وتغذيتهم

كانت إقامة الطلبة عبارة عن حجرات107 متفاوتة المساحات، موجودة في طرف الصحن108 غرب مسجد الزاوية، منفصلة عنه بنحو ثلاثين مترا، وبحكم طبيعة البشر، كانت كلّ حجرة تحوي مجموعة من طلبة ينتمون لقبيلة واحدة، فكانت الحجرات تسمّى بأسماء القبائل، فيقال مثلا هذه (حجرة أولاد عامر) وهذه (حجرة أولاد قريب) وهذه (حجرة أولاد سعد بن سالم)، وهؤلاء القبائل هم في الغالب من أتباع الزاوية ومريديها، وكلّما حلّ طالب جديد بالزاوية تجده ينضمّ تلقائيا إلى الحجرة التي يقطنها أبناء قبيلته.
كما كانت لبعض الشيوخ حجرات خاصة بهم سمّيت بأسمائهم، وكانت قائمة إلى عهد قريب في صحن المسجد، منها حجرة الشيخ ابن عبد الرحمن، وحجرة الشيخ ابن عزوز. إذ كانوا يعتكفون فيها شهورا، وهي بجوار حجرات الطلبة، وبنفس النسق بنيت، فلا تختلف عن إقامتهم شكلا ولا مضمونا، وكان لهذا الجوار كبير الأثر على الطلبة من جوانب عديدة، أهمّها الجانب النفسي والجانب العلميّ، أمّا النفسي فرفع معنويات الطلبة باستئناسهم بالشيوخ الذين يجدون فيهم معاملة وعطف وتواضع الآباء، وأمّا الجانب العلمي فحين تصعب على الطلبة مسائل علمية أثناء مراجعتهم يجدون شيوخهم بجوارهم وجوابهم يكون لديهم حاضرا.
وكان يوجد في طابق سفلي تحت الأرض من جهة الصحن وعلى مستوى الأرض من جهة شارع الدشرة109  حمام خاص بالطلبة، بني بطريقة بناء الحمامات القديمة، فيه رواق طويل وعلى يساره غرف استحمام صغيرة، وفي منتهاه قاعة للاستحمام كبيرة تحوي صهريجا ضخما صنع من النحاس، يوجد تحته فرن يوقد عادة بالخشب.
أمّا مطعم الطلبة فكان في البناية القائمة شرق المسجد، وهي مبنى ضخم يضمّ بيت الشيخ110 والنوالة، وهي المطبخ الذي يهيئُ فيه الطعام للطلبة والزائرين والمسافرين والدراويش111 وغيرهم من الفقراء والمساكين. وبجنب هذا المطبخ قاعة الإطعام وهي تتسع لنحو ثلاثمائة شخص، والمطعم مفتوح أيضا في فناء يسمّى (حوش الكرمة)، وهذا الفناء كان يستعمل لإطعام الطلبة والزائرين حين يكون الجو معتدلا.
يجلس الطلبة مجموعات من عشرة عشرة، حول قصع112 واحد لكل مجموعة. أمّا وجبة الغداء فتتنوّع حسب الفصول وثمارها، وأمّا وجبة العشاء فيقدم لهم على مدار العام العيّاد، والعيّاد له ارتباط وثيق وخصوصية بزاوية الهامل113.
أمّا الزيّ العام للطلبة فهو الطراز العربي الإسلامي، وهو طراز شبه موحّد، في الشتاء الجبب والبرانيس المصنوعة من الصوف والوبر الناتج محليّا، وفي الصيف العباءات المنسوجة من الصوف أيضا أو الكتّان114. والعمائم كانت رمزا، واستعمالها هو الغالب على الطرابيش التي ظهرت مع الوجود العثمانيّ. والنعال والأحذية كانت من الجلد115.
كما كان للطلبة بطبيعة الحال عطلا سنوية، وتسمّى عندهم (المسامحة)، وبما أنّ المجتمع كان زراعيا، فإنّ العطل كانت تتوافق في الغالب مع مواسم الحصاد وجني الثمار، فتكون عطلة الطلبة الذين ينحدرون من الهضاب العليا والشمال، في الصيف، وعطلة القادمين من بلاد القبائل الأمازيغ وأقصى الغرب، حيث غابات الزيتون، أو أهل الجنوب أصحاب النخيل فتكون عطلتهم في الخريف ليتمكنوا من مساعدة أهلهم في جني غلالهم.
أمّا عن التوقيت اليومي للدراسة، فهو مكثّف إذ يستغرق معظم اليوم، بالإضافة إلى قطع من الليل116 في حال درس الفقه مثلا، أو دروس الشيوخ الزائرين، وفي البرنامج الآتي في الملحق نلاحظ كيف كانت المجالس العلمية تستمر أحيانا إلى منتصف الليل. أمّا الطلبة المبتدئين فيشرعون في كتابة ألواحهم بعد صلاة الصبح، أي قبل شروق الشمس، ثمّ يشرعون في حفظ ما كتبوا إلى غاية الضحى، أي نحو العاشرة صباحا، ثم يستريحون إلى غاية وجبة الغداء وصلاة الظهر، ثمّ القيلولة، ويستأنفون بعد صلاة العصر، إلى قبيل صلاة المغرب. وما بين الوقتين إمّا يستريح فيه الطلبة، أو ترى المجتهدين منهم يروحون ويغدون في حرم الزاوية على طريقة المشائيين لأرسطو وهم يتلون ويكررون جماعيا القرآن الكريم ترسيخا للحفظ.

3-3 نشاطات الطلبة (التكوين الحرفي والرياضي)

مما امتازت به زاوية الهامل هو تكوين الطلبة تكوينا حِرَفيا ومهنيا، غير ملزم، بالموازاة مع طلبهم للعلم، فكان الغالب هو تعليمهم تقنيات الزراعة والفلاحة عموما، وتربية المواشي ورعيها، والبناء ومتطلباته، والفروسية والرماية، والصيد، وسباق العدو، وسباق الخيل، ولعب الألعاب الشعبيّة117، وكان هذا يتم جماعيا، في أيام العطل الأسبوعية بالنسبة للرياضات ولاسيما في فصل الربيع، يخرج الطلبة مع المقاديم118 إلى (القرارة) وهي سهل خارج القرية، ويمارسون هناك الرياضات التي يحبونها بإشراف وتوجيه المقدّم المرافق لهم.
بينما الأعمال الفلاحية تكون في مواسمها كغرس الفسائل وزرع الحبوب والحرث والحصاد، وجني الثمار، وتقليم الأشجار، وما إلى ذلك.
أو بالمساهمة في بناء مرافق الزاوية ومساكن الطلبة وترميمها وتجديدها وغير ذلك من الأعمال التي تكسبهم مهارة وخبرة كثيرا ما يستفيدون منها بعد التوجه إلى الحياة العمليّة119.
وممّا يستفيده أيضا بعض الطلبة في إطار التكوين، الإدارة والتسيير، فقد يكلّف الشيخُ من يتوسّم فيه الخير والصلاح وقوّة الشخصيّة بأمور الطلبة، كأن يكون مراقبا أو مقتصدا أو مسيّرا أو مسؤولا في باب من أبواب مصالح الطلبة أو حتّى شؤون الزاوية الداخليّة، وربّما الخارجيّة إذا كان الطالب متمكّنا.
ولعلّ أهم الحرف التي استفاد منها الكثير هي الوراقة، أو النساخة، وهي نسخ الكتب أو استنساخها، فقد كان الشيخ يختار من الطلبة من حسن خطّه، ويكلّفه بنقل بعض الكتب، أو يوزّع الكتب الضخمة على مجموعة من الطلبة فينقلونها له، لذلك نجد كثيرا من المخطوطات الموجودة في مكتبة الزاوية قد كتبت فيها بخطوط طلبتها. ويوجد كثير من الطلبة من امتهن هذه الحرفة بعد تخرّجه وصار يعيش منها طول حياته، ولاسيما مصاحف القرآن الكريم، قبل أن تنتشر الطباعة.
وبطبيعة التكوين الديني في الزاوية فإنّ معظم المتخرجين منها تكون وجهتهم الإمامة، بأن يكونوا أئمّة جمع وصلوات ومؤذّنين، وكلّ هذا يكون تكوينهم فيه أثناء تعلّمهم بالزاوية، ولاسيما في شهر رمضان المبارك، حيث يقدّمون إلى إمامة الناس في صلاة التراويح، ويتعوّدوا بذاك على هذه المهمّة الصعبة، التي تتطلّب شجاعة أدبيّة وحفظا متقنا وقراءة سليمة صحيحة للقرآن. وهذه وظيفة معظم خريجي الزاوية إلى الآن.

3-4 تعليم المرأة

لم تكن المرأة محرومة من التعلّم في زاوية الهامل، بل كان ممكنا لكل راغبة وقادرة على ذلك، ومثال ذلك هو ابنة الشيخ مؤسس الزاوية السيّدة زينب، فقد قرأت القرآن الكريم وأخذت العلم عن والدها، وصارت من أعلام الأمة، وتولّت مشيخة الزاوية حتى توفيت120. وكذا كلّ بنات الأسرة القاسمية ونسائها أخذن من العلم القدر الحسن الذي يصلحن به حياتهن الدينية والدنيوية. ولكن غيرهن من نساء القرية وأتباع الزاوية لم يتمكنّ من متابعة التعلم بها ربّما للظروف الاقتصادية والأمنية التي كانت الحائل الأكبر.

3-5 المنهج التربوي

(إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ)121
كانت التربية ولا تزال هي الأهم لدى شيوخ الزاوية، بل هي أهمّ من التعليم في ذاته، لأنّ العلم بلا خلق قد يكون ضرره أكثر من نفعه. لذلك كانت التربية والأخلاق هي جوهر التلقّي. فكان الطلبة إذا تخرّجوا من الزاوية لم يتخرّجوا بمحفوظات وعلوم فقط، بل وبأخلاق عالية تكون لهم طابعا ولمجتمعهم قدوة.
وكانت قواعد الشيوخ في التربية هي قواعد التصوّف122، وأهمّها (التربية بالحال وليس فقط بالمقال) فكان الطلبة يتأدّبون بآداب شيوخهم بالحبّ أوّلا، وهو ما يحثّهم على الإعجاب والتقليد والمتابعة في معظم الأعمال والأقوال، ويصدرون وهم متشبّعون بأخلاق نبوية فاضلة أخذوها حالا ومقالا، وبتعبير العصر نظريا وتطبيقيا.

4-1 نتائج البحث

تفاديا للتوسّع والاستطراد نحصر نتائج هذا البحث في مجالين، عملي وعلمي، فالنتائج العملية تستبين بالآتي:
أولا: تعداد الطلبة في كل الفترات
كان تعداد الطلبة المقيمين في الزاوية أول ما تأسست نحو مائة طالب، ثم ازداد إلى أن بلغ خمسمائة في نهاية القرن التاسع عشر، وتناقص بين الحربين العالميتين إلى نحو مائتين، وكذلك أثناء ثورة التحرير إلى أقل من ذلك بكثير، ثمّ ارتفع بعد الاستقلال إلى أن فاق (1500) خمسمائة وألف سنة 1975، ثم تضاءل بعد تطبيق النظام الاشتراكي حتى وصل  إلى مائة طالب، وهو المعدّل الذي استمرّ عليه الحال إلى الآن.
فمتوسّط طلبة الزاوية منذ عهد تأسيسها كان كالآتي :
1265هـ /1848م = 1280هـ /1863م = 080 - 200        طالب.
1280هـ /1863م = 1345هـ /1927م = 200 - 450        طالب.
1345هـ /1927م = 1364هـ /1945م = 300 - 600        طالب.
1364هـ /1945م = 1374هـ /1955م = 200 - 350        طالب
1374هـ /1955م = 1382هـ /1962م = 050 - 150        طالب.
1382هـ /1962م = 1384هـ /1964م = 200 - 400        طالب.
1384هـ /1964م = 1390هـ /1970م = 400 - 800        طالب.
1390هـ /1970م = 1395هـ /1975م = 1100- 1500     طالب123.
 وهي الآن تستقطب في حدود مائة طالب للقرآن الكريم.
ثانيا: فروع زاوية الهامل:
بالنظر إلى النشاط الكثيف للزاوية فقد نشأ منها تسع وعشرون 29 فرعا،  توزعت على مناطق عديدة في الجزائر، وهي: سيدي عيسى، الأغواط، قصر البخاري، قصر الشلالة، بوسعادة، بريكة، الجلفة، عين وسارة، البيرين، حاسي بحبح، المسيلة، بسكرة، تقرت، وادي سوف. وهذه الفروع كلها مدارس لتعليم القرآن والعربية124.
بل وامتدّ إلى الحجاز حيث أرسل الشيخ محمّد بن أبي القاسم مبلغا من المال لشراء منزل قرب المسجد النبويّ في المدينة المنوّرة ليكون مدرسة قرآنية125، كما اشترى وقفا للطلبة المغاربة في المسجد الأقصى بفلسطين.126
أمّا النتائج العلمية؛
فلتعذّر حصر ذلك، نحاول إعطاء فكرة عامّة دون تفصيل، فقد تخرج منها آلاف الطلبة، منهم القضاة والأئمة والمفتون والأساتذة والمدراء والصحفيون127، والسياسيّون128 والعسكريّون129، ومنهم من هاجر عالما معلّما إلى أقطار أخرى كتونس ومصر والشام والحجاز وتركيا، ويبقى أنّ الغالب منهم تولّى وظيفة الإمامة، وهي الصلاة بالناس في المساجد وتعليمهم القرآن الكريم وأمور دينهم.
كما ترك خريجو الزاوية عدّة أعمال علميّة وأدبية، منها ما نشر ومنها لم ينشر بعد، فمن ذلك أعمال الشيخ محمد القاسميّ130 والشيخ عبد الرحمن الديسيّ131 والشيخ المكي بنعزوز132 والشيخ عاشور الخنقيّ133 والشيخ حميده الجزائرليّ134 والشيخ أبو القاسم الحفناويّ135 والشيخ العيد الهامليّ136 والشيخ بنعزوز القاسميّ137 والشيخ عبد القادر المسعديّ138، والشيخ محمد التاجرونيّ139 والشيخ الخليل القاسميّ140... وغيرهم141.
كما أسهم أبناء وطلبة الزاوية في مجال الإعلام آنذاك بإصدارهم لجريدة الرشاد (1938-1939)، التي كانت لسان حال جامعة الزوايا والطرق الصوفيّة، وشعارها هو الآية الكريمة: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}142، والتي اتسمت مقالاتها بالحكمة والفكر النيّر والدقة في التحليل، وقد علّق عليها الدكتور محمّد ناصر في كتابه الصحف العربيّة الجزائريّة بقوله: (... ولعلّه من الإنصاف أن نذكّر بأنّ أسلوبها في تناول خلافها مع جمعيّة العلماء يتّسم بالهدوء والرصانة والتعقّل... كما أنّنا لا نعدم في جريدة الرشاد مقالات رائعة، ذات تحليل فلسفيّ عميق يدلّ على غزارة ثقافة صاحبها، وإدراكه الواسع لما يتصدّى له من مسائل ومشاكل...) وتوقّفت هذه الجريدة بعد صدور العدد 53 منها في 25/09/1939    إثر قرار الحكومة بإخضاع الصحف العربيّة للمراقبة الصارمة بعد اندلاع الحرب العالميّة الثانيّة.
وبعد نحو عقد من الزمن حاول مجموعة من شباب الزاوية إصدار جريدة أخرى بعنوان (الروح) سنة 1948، تميّزت هي الأخرى بمقالاتها الفكرية والثقافية والأدبية والسياسية الجيّدة، الدالة على المستوى المعتبر الذي كان عليه طلبة هذه الزاوية، وكانت محاولة تجريبية سرعان ما اختفت بعد صدور العدد العاشر، ويرجع بعضهم أسباب توقّفها إلى متابعة ومضايقة المصالح الاستخبارية للاحتلال الفرنسي لبعض أعضاء الجريدة ما أدّى بهم إلى التوقف عن الكتابة فيها.
ولا نفوّت ونحن بهذا الصدد أن نذكّر بالأشعار التي قيلت في الزاوية ورجالها، باللغة العربية الفصيحة، وهو ما يسمّى بالشعر العمودي، وأيضا بالشعر الملحون، أو الحميني، أي باللغة الدارجة، وهي إذا جمعت لا شكّ ستكون في دواوين تضاف إلى تراث الأدب العربي الرفيع وخزانة جامعة لفصيح اللغة ومعتّقه ممّا لم يعد له في هذا العصر من وجود ولا متذوّق واجد.143
ونسجّل أخيرا ما يُعدّ من أهمّ النتائج العلميّة لزاوية الهامل ألا وهو المكتبة القاسمية؛

4-2 المكتبة القاسمية

لا شكّ أن دور المكتبات في تطوّر المجتمعات معروف منذ القدم، كما أنّ وجود المكتبات دليل على هذا التطوّر، وكلما وجدنا مكتبة في بيت ما أدركنا من خلالها توجه أهل ذلك البيت ومستواهم، والأمر طبعا ليس قطعيا.
وزاوية الهامل بمجتمعها الصغير المكوّن من الأسرة القاسمية ومن طلبة الزاوية ومن أتباعها وجيرانها، احتفظت للتراث الإنساني، وليس فقط القُطري أو العربي الإسلامي، بل بكلّ ما تحمل كلمة الإنساني من معانٍ. إذ نجد فيها مخطوطات نادرة كتبت منذ ثمانية قرون، ومخطوطات كتبت في الأندلس أيام كانت الأندلس حاضرة من حواضر الإسلام، وأخرى كتبت في الهند وفي إفريقيا، وفي سمرقند، ومنها بخطوط مؤلفيها، وعلماء وكبار، ومنها ملك لبعض الأمراء، ومنها باللغات التركية والفارسية وحتى اللاتينية. ومنها ما كان مقياسا ومرجعا لفن الخط العربيّ والمنمنمات الذي اشتهر به المسلمون لتعذّر الرسم عليهم بناء على أسس دينية. ومنها كثير من الوثائق التي احتفظت بها المكتبة عبر أجيال، وإن كانت ذات طابع خاص برجال الزاوية إذ هي في معظمها مراسلات بعض أعلام وعلماء العالم الإسلامي. كما احتفظت المكتبة القاسمية بعدّة مطبوعات قديمة تعتبر من كنوز العالم منها كتاب القانون لابن سينا الذي طبع في روما سنة 1593، وبعض مطبوعات نابليون بونابارت، والمطبوعات الحجرية في فاس ومصر، والهند، ومطبوعات فونتانا بالجزائر وغير ذلك. ولابأس إن قلنا أنّ المكتبة تحتفظ الآن أيضا بمجموعة محترمة من الجرائد القديمة، كالمبشر والمنتخب والسعادة وغيرها مما كان في نهاية القرن التاسع عشر، فضلا عن جرائد القرن العشرين إلى غاية ثورة التحرير الجزائرية سنة 1954.
اعتنى الشيخ محمد بن أبي القاسم بمكتبة جدّه وأبيه، التي كانت بضع مخطوطات، وزاد عليها أضعافا مضاعفة، وأهم ما هو موجود في المكتبة الآن إنما هو من مكتسبات وتراث الشيخ المؤسس، إذ أنفق أمولا معتبرة لشراء هذه المخطوطات. كما اعتنى أيضا باستنساخ الكتب التي تعذّر عليه شراؤها، فكان يستعيرها من أصحابها ويكلّف الطلبة بنقلها نقلا حرفيا، وكان هو أول من خطى خطوة في النشر على مستوى المنطقة، إذ قام بنشر كتاب المنظومة الرحمانية بشرح ابن المؤلف في تونس سنة 1890، ثم توالى نشر الكتب من بعد ذلك كالزهر الباسم للقاسمي ورفع النقاب وتفضيل البادية والمناظرة بين العلم والجهل للديسي وغيرها، وساهم رجال الزاوية في نشر كتب أخرى في المغرب وتونس والجزائر ومصر. كالبستان لابن أبي مريم، ومنار الإشراف لعاشور ووسيلة المتوسلين للقسنطيني وترتيب المدارك للقاضي عياض، وغير ذلك كثير، إلى أن تأسست دار الخليل التي تواصل السير على هذا النحو لنشر ما أمكن من هذا التراث العظيم.
نشرت أوّل فهرسة لبعض هذه المكتبة على نطاق واسع، سنة 1897 باللّغة الفرنسيّة من إعداد المستشرق الفرنسيّ رينيه باسيه، شملت 52 عنوانا، اقتصر فيها على عنوان المخطوط ومؤلّفه وذكر وفاته، وعدد نسخه، والنسخ المذكورة منه في فهارس مكتبات أخرى، وتاريخ طبعه إن كان. ثمّ تعدّدت الفهارس التي لم تنشر لهذه المكتبة على يد الشيخ محمّد بن عبد العزيز الفاطمي سنة 1933،  والشيخ محمّد بن عزوز القاسميّ مرارا، والطاهر القاسميّ الحسني رفقة محمد فؤاد القاسميّ الحسنيّ 1986، ثمّ فهرسة نشرت على مستوى الجامعات من إعداد أبو الأنوار دحيّة ومحمّد فؤاد القاسميّ، شملت 300 عنوانا مرتّبة على الأرقام، وأخيرا قمنا بإنجاز فهرسة هي الأكمل اشتملت على أكثر من سبعمائة عنوان في خمسمائة وألف مجلد مخطوط، بالإضافة إلى جرد بمعظم الوثائق الموجودة بالمكتبة القاسمية، بوصف علمي دقيق، نشرت في لبنان سنة 2006.
وبطبيعة الحال كان ولا يزال نظام تسيير المكتبة وفق المستويات، فكتب المتون المعبّر عنها الآن بالكتب المدرسيّة كانت في متناول كلّ طالب مستحق، وكتب الاختصاص تكون بإشراف الأساتذة، أمّا الكتب النادرة والنفيسة فهي في الخزانة الخاصة للشيخ لا ترى إلا بإذنه.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المكتبة ساهمت في عدّة معارض دولية مشتركة بمخطوطاتها النادرة.

5-1 الخاتمة

زاوية في منطقة نائية يقصدها العلماء والمفكّرون والحكّام كما يقصدها الطلبة والفقراء والمريدون، هي لا شكّ مؤسسة ذات امتداد واسع وتأثير عميق في المجتمع الإنساني، وهو ما أدركه هؤلاء وهؤلاء، فكانت ولا زالت منهلاومحلّ اعتناء لهم جميعا حتّى من أبعد النقاط جغرافيا عنها، من كاليفورنيا إلى طوكيو، كلّ هذا ما كان ليكون لولا صدق الشيخ سيدي محمّد بن أبي القاسم مع الله، أسّس زاويته على تقوى من الله، فأعطاه الله خير الدنيا والآخرة، واستمرّ بفضل الله تعليمه ونشره للأخلاق الفاضلة إلى الآن، قرن ونصف قرن وهذه الزاوية في عطاء متواصل، تعلّم العلم، وتطعم الطعام، وتربّي الأجيال.
ختاما لا أزعم أن هذا البحث المتواضع هو في مستوى مؤسسة عريقة بحجم زاوية الهامل، ولا بحجم معهد متخصّص كمعهدكم، ولكنه محاولة لإعطاء ولو فكرة بسيطة عن ظروف ومراحل التعليم في هذه الزاوية، والفضل في إعداده يرجع بعد الله إلى الأستاذ الدكتور كيسائيشي، الذي شرّفني بطلب إنجازه لفائدة المنتسبين لمعهد الثقافات الآسيوية بجامعة صوفيا، بطوكيو، فالشكر موصول له ولجميع من كان حافزا للعلم ومشجعا لأهل العلم.


شكرا
محمـد فؤاد القاسمي الحسني
المقطع / عصر يوم الجمعة
 13 جمادى الثانية 1433
الموافق 04/05/2012
الجزائر