بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة الناشر
محمّد المكيّ بن مصطفى بنعزوز البرجيّ البحرجيّ الطولقيّ الجزائريّ ؛
عَلَم تفخر بانتسابه إليها الجزائر وتونس، وقد نضيف إليهما تركيا، إذ من الأولى أصله وتوجيهه، وفي الثانية نشأته وتحصيله، وفي الأخيرة تعليمه ووفاته.
يقول عنه عادل نويهض في كتابه «معجم أعلام الجزائر» بأوجز عبارة، وأجمعها لمراحل حياته: ( أديب شاعر، قاض، عالم، بالفقه والحديث، له اشتغال بالسياسة، أصله من مدينة طولقة في الجنوب الشرقيّ للجزائر، في شمال الصحراء، رحل والده إلى مدينة نفطة بتونس، وولد هو بها، وتعلّم بجامع الزيتونة، وولي الافتاء بنفطة ثمّ قضاءها، دعا إلى مقاطعة فرنسا اقتصاديّا في الجزائر أثناء زيارته لها، فأمرت سلطات الاحتلال بالقبض عليه، وطاردته في الجزائر وتونس، فرحل إلى الآستانة سنة 1313 هـ، عيّنه السلطان عبد الحميد مدرّسا للحديث والفقه في دار الفنون، وكانت له شهرة كبيرة في العالم الإسلاميّ ... ).
وفي تعريف خير الدين الزركليّ له، في كتابه «الأعلام»، يغضّ النظر عن أصله الجزائري مكتفيا بوصفه القاضي الفقيه الباحث، ثمّ يتطرّق بعد ترجمة موجزة إلى سرد عناوين تآليفه التي سترد فيما بعد في التقديم، حاذيا حذو الأستاذ عمر رضى كحالة، بقصر نسبته على تونس في «معجم المؤلّفين»، والأستاذ محمّد بن محمّد مخلوف، في كتابه «شجرة النور الزكيّة في طبقات المالكيّة»، الذي قال عنه: ( ... هو إمام نشرت ألوية فضله على الآفاق، وفاضل ظهرت براعة علومه فتحلّى بها الفضلاء والحذّاق ... ).
بينما يقرّ الشيخ محمّد الفاضل بن عاشور في كتابه «تراجم الأعلام»، بالأصل الجزائري له، حين قال: ( ... ودعاه إلى القطر الجزائريّ نازع العرق ورحم الخؤولة وصلة العرين يسافر متردّدا عليه ... ) بعد أن قال عنه: ( ... شخصيّة تونسيّة من أبرز عناوين العلم والفضل والنبل بين القطرين التونسيّ والجزائري ... ) ويضيف لمن قال بأنّ تحصيله العلميّ كان فقط في تونس: ( ... واتصل هناك بالأستاذ المربي الأشهر الشيخ محمّد بن أبي القاسم فاتّخذه شيخ سلوك وتربية وتوجيه .... واتّصل بعلماء الجزائر وأخذ عنهم، ثمّ رجع إلى تونس مكتمل الصبغة الصوفيّة السنيّة الأدبيّة، فكان معدودا في طليعة الأدباء الشعراء، متعلّقا بمنهج الرواية والإسناد وخدمة السنّة، مقبلا على ما كاد يعدّ منقطعا من علوم الرياضيّات ... ).
ويقول فيه الشيخ المحدّث محمّد عبد الحيّ الكتانيّ، في كتابه «فهرس الفهارس والأثبات» : ( هو صديقنا الإمام العلاّمة المحدّث المقريء الفلكيّ الفرضيّ الصوفي المسند الشهير الشيخ أبو عبد اللّه سيّدي محمّد المكيّ بن وليّ اللّه سيّدي مصطفى ابن العارف الكبير أبي عبد اللّه محمّد بن عزّوز البرجي... ) والبرجيّ هنا نسبة إلى برج بن عزّوز القرية المحاذية لمدينة طولقة. ويضيف: ( ... هذا الرجل كان مسند إفريقية ونادرتها، لم نرَ ولم نسمع فيها بأكثر اعتناءً منه بالرواية والإسناد والإتقان والمعرفة، ومزبد تبحّر في بقيّة العلوم، والاطّلاع على الخبايا والغرائب من الفنون والكتب والرحلة الواسعة وكثرة الشيوخ، إلى طيب منبت وكريم أرومة، وكان كثير التهافت على جمع الفهارس وتملّكها ... )، ثمّ يقول: ( ... وأعجب ما كان فيه الهيام بالأثر، والدعاء إلى السنّة، مع كونه كان شيخ طريقة، ومن المطّلعين على الأفكار العصريّة، وهذه نادرة النوادر في زماننا هذا الذي كثر فيه الإفراط والتفريط، وقلّ من يسلك فيه طريق الوسط، والأخذ من كلّ شيء بأحسنه ... ).
ويستشهد الكتاني بما حلاّه به شيخ الإسلام أحمد بن السيّد زيني دحلان المكيّ الشافعيّ بقوله: ( ... قد اشتهر في الأقطار بلا شكّ ولا مين، ولا سيما الحرمين الشريفين، بالعلم والعمل، نخبة العلماء الأعيان وخلاصة الأعيان من ذوي العرفان، سراج إفريقيّة، بل بدر تلك الأصقاع الغربيّة، الأستاذ الكامل ... ) ويعقّب الكتانيّ قائلا: ( ... وهذه الحلا نادرة من مثل الشيخ دحلان ... )، ثمّ يضيف ما قاله فيه عالم الطائف العلاّمة عبد الحفيظ بن عثمان القاري الحنفي:
إن كان فينا قائم فهو الذي * بالعلم يرقى ذروة الجوزاء
في أبيات مدح بها الشيخَ محمّد المكيّ ليخلص إلى استفتائه.
ويختتم الكتّاني الترجمة قائلا : ( ... طالت مكاتبتي ومراسلتي معه، واتّصالي به إلى أن مات، بحيث لو جمعت المكاتبات التي جرت بيني وبينه لخرجت في مجلّدة متوسّطة، وكلّما ذكرت موته أظلمت الدنيا في عيني ... ).
ويقول الأستاذ محسن زكرياء، في مقدّمة «عقيدة الإسلام»، لشاعرنا: ( ... هو بدر طالع في سماء العلماء الأعلام أشرق نوره في عالم الإسلام فلا يفارقه التمام ... العلاّمة الجليل المسند الثبت الحجّة ... ).
هذا هو ابن عزّوز عند المشارقة والمغاربة. فليت شعري كيف هو بين أهله.
لعلّ أحسن ترجمة له، تلك التي وردت في كتاب «نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة»، للأستاذ محمّد علي دبّوز، إذ يقول، بتصرّف واختصار: ( ... من علماء الجزائر الصالحين الذين ساعدوا على نهضتها، وتركوا أثرا عميقا فيها، وكانوا نارا على الاستعمار والمستعمرين. كان رحمه اللّه متخصّصا في علم الحديث، وكان أكبر راوية فيه، كما كان علاّمة في فروع الشريعة الأخرى، وفي علم الفلك، وكان يزور الجزائر في كلّ عام من مقرّه في تونس، فيقضي شهورا يروي الحديث ويعظ النّاس ويرشدهم ويدعوهم إلى النهوض والأخذ بأسباب القوّة للتحرّر من الاستعمار. هذا العالم الجليل لم يتزعّم النهضة في الجزائر ولكنّه كان السحاب المبارك الذي يخيّم على المكان ساعة فيملؤه بمائه وحياته ... ).
وإذا كان الدكتور سعد الله قد تعرضّ للشيخ محمّد المكيّ ابن عزوز في كتابه «تاريخ الجزائري الثقافي» زهاء أربعين مرة، في خمسة أجزاء، فإنّه لم يفرد له فصلا خاصّا بحياته، مع أنّه حضّ على ذلك نفسه وغيره، ربّما اكتفاء بما كُتب عنه، أو سهوا منه ... وإذا اخترنا فقرات منه، فلتكن، بتصرّف، الآتية:
( ... إذا تحدّثنا عن جزائريّة المكيّ بن عزّوز فإنّنا نفعل ذلك لنذكّر الجيل الجديد بأجداده الذين ضربوا في الأرض مراغمين والذين أجبرهم الاحتلال على العيش في المنافي ... ).
( ... ومن أكبر الوجوه التي ظهرت في هذه الأسرة نذكر المكيّ بن عزّوز الذي كان من أعلام عصره ... ).
( ... كذلك حلّت باسطنبول شخصيّات من أصول جزائريّة من أجل تجنيد التأييد العثماني لقضيّة الجزائر والمغرب العربيّ عموما ... ومن تلك الشخصيّات الشيخ المكيّ بن عزّوز، الذي ذاع صيته كعالم وشاعر وسياسيّ ومتصوّف ... ).
( ... وفي سنة 1913 أنشأ الشيخ المكيّ بن عزّوز في المدينة المنوّرة جمعيّة الشرفاء، وكانت تعمل على خدمة مباديء الجامعة الإسلاميّة، ويتّهمها الفرنسيّون بأنّها كانت تعمل على إثارة جنوب الجزائر ضدّهم ... ).
وأخيرا؛ لا نصدر عن هذه الفقرات إلاّ باستذكار ما قاله عن محمّد المكيّ أحد أكبر وجوه العلم والأدب في العالم العربي والإسلامي في عصره، وهو ابن أخته، وتلميذه، العالم الأديب الباحث الشاعر، محمّد الخضر بن الحسين، الجزائري الأصل أيضا، وهو من هو، عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربيّة، وشيخ الأزهر، وناقض كتاب «في الشعر الجاهلي» للدكتور طه حسين، حين وقف على قبر خاله محمد المكي بالآستانة، قادما إليها من ألمانيا بعد شهرين من وفاته، حيث قال، في ديوان شعره «خواطر الحياة»:
رُبّ شمس طلعت في مغربٍ وتوارى في ثرى الشرق سناها
ههنا شمس علوم غربت بعد أن أبلت (بترشيش) ضحاها
بفؤادي لوعة من فقدها كلّما أذكره اشتدّ لظاها
فقفا لمحة طرف نقتني عِبَراً من سيرة طاب شذاها
أيّها الراحل قد روّعتنا بفراق حرم العين كَراها
لك نفس سرّحت همّتها في مراعي العلم من عهد صباها
صاعرت للّهو خدّا ورأت في ذُرا العلياء أهداف هواها
تتباهى البيض في يوم الوغى بظبا مرهفة لا بحلاها
وحجا أشرف من عليائه يجتلي زُهر الدياجي وسُهاها
غبتُ في ذكرى ليال غضّة وثب الدهر عليها فطواها
إذ رُبا (نفطة) تزهى في حلى زهرها الريّان من خمر نداها
وظلال بين دوح ناضر ونهور يبهر الكأس صفاها
وطيور الأيك في أغصانها تخطف السمع بأنغام لُغاها
بين هاتيك الرُبا لقَّنتَنا أدب العرب كتابا وشفاها
وترحّلت إلى تونس في نعمة المغبوط إقبالا وجاها
صغت بالتدريس أطواقا شبا درّها بالجامع السامي فتاها
أينما كنتَ تداعت أممٌ تتملّى روضة يحلو جناها
من علوم اللغة الفصحى إلى حكمة الشرع إلى علم سواها
لغة العرب ثقاف للنهى وعلوم الدين نبراس هداها
وتفاءلتَ فأزمعت النوى وبأستنبول ألقَيتَ عصاها
ألقِيتَ الأنس في أرجائها مثلما تلقى بها ريح صباها
زرتُ مَغناك ومن سُمّارك الـ ـقلم الباحث في سُنّة طه
ورجال بعثوا أرواحهم في قراطيس تناجي من وعاها
لم تعش فيها غريبا فَقَرا بَة أهل النبل أحكمتَ عُراها
عرّج الناعي على أندية كنتَ إن وافيتَها قُطبَ رحاها
ودرت (دار الفنون) النعي من صبحها الطالع في لون دجاها
طِب مقاما يا (ابن عزّوز) فقد كنت تعطي دعوة الحق مناها
هذا ما اطّلعت عليه عند أهله، وأرجو أن يكون أكثر، والأهمّ من هذا دراسة أعماله، ونشر ما لم ينشر منها.
وختاما أنبّه من يرى أنّ الشعر يزري بالعالم ويحطّ من قدره، إلى مراجعة أخبار العلماء، فلسوف يجد من الصحابة من كان شاعرا كحسّان ولبيد، ومن الأئمّة الشافعيّ، ومن الفقهاء والمحدّثين العسقلانيّ والإسفرايينيّ والواسطيّ وغيرهم ممّا يتعذّر حصره، أمّا السادة الصوفيّة، وهو واحد منهم، فحدّث عن البحر ولا حرج، وإن تساءل عن الغزل، فأنقل له باختصار وتصرّف، شيئا ممّا كتبه الأستاذ الدكتور مصطفى الشكعة في تقديمه لديوان الشيخ محمّد الغزالي «الحياة الأولى»، حيث قال:
( ... الفقهاء بشر لهم قلوب تخفق ونفوس تعشق وجوانح يضنيها العشق ويسهرها الغرام ... وهذا فريق من العلماء العشّاق، ليسوا من الكثرة بمكان، بحيث يشكّلون ظاهرة في مجتمع العلماء، ولكنّهم وجدوا على أيّة حال، وذاع شعرهم وشاع غزلهم، وردّدته ربّات الخدور، مثلما رجّعته ألسنة الرجال. كان عبيد الله بن عتبة بن مسعود واحدا من هؤلاء الشعراء الفقهاء العشّاق، وهو فقيه إمام من صفوة التابعين، قال:
... في أبيات،
وهذا المحدّث الثبت عروة بن أذينة، الذي روى عنه الإمام مالك، يقول:
إنّ التي زعمت فؤادك ملّها قالت وأبثثتها وجدي فبحت به | | خُلِقت هواك كما خُلقتَ هوىً لها قد كنت عندي تحبّ الستر فاستتر |
وها الذي لقّب بالراهب لنسكه، فقيه فقهاء مالكيّة العراق، أحمد بن المعذّل قال:
أخو دنف رمته فأقصدته أصبن سواد مهجته فأضحى كئيب إن تحمّل عنه جيش | | سهام من لحاظك لا تطيش سقيما لا يموت ولا يعيش من البلوى ألمّ به جيوش |
وأما المحدّث الحافظ ابن حجر العسقلاني فقد فقال في زوجته:
أشاغل نفسي بالحديث تعلّلا | | نهاري وفي ليلي أحنّ إلى ليلى |
هذا؛ ولمن شاء المزيد استزاد من كتب الأدب، كالعقد الفريد وعيون الأخبار، ونهاية الأرب وغيرها، أو ليرجع إلى هذه المقدّمة الجديرة بأن تنشر مستقلّة، وأرجو أن تلبّي هذه القطوف حاجة ذائق وإن كانت في غير قطاف، فالأمل الباعث على ترديدها دفع الهمم إلى نشر تراث أولئك الرجال.
وربّما أكون قد أطلت هذه الكلمة على من استطالها، وإن كانت في حق صاحبها موجزة، وما ذاك إلاّ ولاء لهذا العلم الشامخ وعرفانا وتقديرا.
وأثني هذه الورقة منوّهاً بصديقي الأستاذ عبد الحليم صيد، مثال الباحث الجادّ المثابر، الذي يغنم ـ ولا أقول يفني ـ معظم وقته في البحث والجمع والتأريخ للهداة من رجالات هذا الوطن العزيز الثري بالمآثر وآثار الرجال، باذلا جهده لتبليغها للأجيال، بوسائل الإعلام المتاحة، كحصّته الإذاعيّة (أعلام من الزيبان)، وكتابه «أبحاث في تاريخ زيبان بسكرة»، و«محاضرات ومقالات»، يضاف إلى ذلك مقالاته التاريخيّة العديدة المنشورة في مختلف الصحف الجزائرية، فضلا عن عمله الأدبي التاريخي العلمي هذا الذي بين أيدينا ... أسأل الله له ولكلّ المخلصين النجح والتوفيق. وفي هذا لا يسعني إلاّ أن أثمّن برنامج وزارة الثقافة الجزائرية الرامي إلى تشجيع صناعة الكتاب في الجزائر، على العموم، ونشر تراثنا على وجه التحديد، فلكلّ العاملين جميل الشكر ووافر التقدير.
الناشر
محمد فؤاد القاسمي الحسني
الحمد لله وحده، والصلاة على من لا نبي بعده،
ردحذفدار الخليل كرامة الإرث الذي*صار الفؤاد دليله المنشور.
بارك الله فيك يابن العم، وأيّدك بنصره.
أحمد أمين القاسمي الحسني.