بسم الله الرحمن الرحيم
جولة في القاهرة
بقلم : محمّد فؤاد القاسمي الحسني
الحمد لله ربّ السماوات وربّ الأرض ربّ العالمين, الذي جعل لنا الأرض ذلولا وأمرنا بالسير في مناكبها, والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا وحبيبنا محمّد وعلى آله أهل بيته الطيّبين الطاهرين وخلفائه الراشدين والانصار والمهاجرين وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إلى السيّد ابن السيّد؛ الأخ الأعزّ الفاضل الأستاذ مصطفى, وأهل بيته, سلام من السلام عليكم, ورحمته تعالى تراوحكم وبركاته تغاديكم, وبعد السؤال عن أحوالكم أجراها الله وفق مرادكم, وآتاكم سبحانه من كلّ ما سألتموه, وزادكم من نعمائه وإفضاله فوق ما تريدون, وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة, وفتح علينا وعليكم فتح العارفين به, المقرّين بوحدانيّته, الشاهدين لجماله مع جلاله في كلّ لمحة ونفس. آمين
فها أنا ذا؛ ليلة الاثنين السادس عشر من رمضان المعظّم بتقويم مصر, أفيق رويدا من القاهرة, وكأن لم يكن وصلها إلاّ حلما في الكرى أو خلسة المختلس, وبمحض فضل الله, كان حقيقة, بسمة المشرق في محيّا المغرب, جعلك الله فيها خير واسطة وسبب, غنمت منها أوّلا وقبل كلّ شيء حضور فرحكم الذي طالما تمنّيت مع كلّ أهلكم هنا من الأسرة مشاركتكم فيه, ولكن قدّر الله أن أكون بمفردي معكم فيه, نيابة, ولعلّ في ذلك كفاية وبركة إن شاء الله, وهم لم يكونوا أقلّ حرصا منّي, وأنتم الأهل لأكثر من ذلك, ولكنّ الأمور ما تعلم, والعذر منك مأمول, والله نسأل أن يوفّق الكلّ لمباركة فرحكم والمشاركة فيه بما استطاعوا, راجين من الله أن يجعل زواجكم الميمون مكلّلا بالرفاه والبنين والعشرة الطيّبة والذريّة الصالحة والسعادة في الدارين, إنّه سميع مجيب الدعاء.
هذا؛ وقد تشبّعت في رحلتي هذه بزيارة تلك الأراضي المباركة الطيّبة, وتشرّفت فيها بالوقوف على أعتاب حضرات أهل البيت عليهم السلام, ومقامات الأئمّة والصالحين والعارفين؛ زادنا الله وإيّاكم حبّا فيهم وتشبّثا بهم وزيارات إليهم.
لقد عددت المعالم التي زرنا من الذاكرة والمذكّرات فوجدتها خيرا كثيرا؛ فبعد مسجد سيّدنا الحسين والسيّدة زينب والسيّدة نفيسة العلم, زرنا مسجد السيّدة رقيّة بنت الإمام عليّ بن أبي طالب, وضريح السيّدة عاتكة بنت عمر بن نفيل عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, وضريح السيّد عليّ محمّد بن الإمام جعفر الصادق, ومسجد السيّد محمّد الأنور, عمّ السيّدة نفيسة. ثمّ مقام السيّدة سكينة, عليهم جميعا السلام, وهؤلاء كلّهم في شارع الأشرف إلاّ الثلاثة الأوائل.
كما زرنا باقتضاب شاءه الله مسجد الإمام الشافعيّ ومسجد السيّدة عائشة وقرافة مصر, نفعنا الله ببركات صالحيها, وتبرّكنا بجامع الصحابيّ عمرو ابن العاص, ومسجد الإمام الدردير, وصاحبه السباعيّ, عليهم جميعا رضوان الله.
ووقفنا على المسجد الذي بنته خوشيار هانم أم الخديوي إسماعيل على ضريح الشيخ أبي الشباك عليّ الرفاعيّ, وضجعائه من الصالحين الأنصاريّ والغوريّ والشيخونيّ والمزاريقي, وهو كما قرأت فيما بعد كان الأصل في المكان الزاوية البيضاء, التي ضمّت رفات هؤلاء الشيوخ, وعمدت خوشيار إلى هدم الزاوية وبناء أثر لها يخلّد اسمها وتدفن فيه, ودفن فيه الملوك فؤاد وأمّه, وفاروق وشاه إيران.
ومن المساجد التي تعلّق نظري بها, دخولا لبعضها, ووقوفا عند أبواب بعضها الآخر, في طريقي سيرا من البحر الصغيّر إلى القلعة فالحرم الحسينيّ, دون ترتيب: مسجد السلطان حسن المقابل للرفاعيّ, ومسجد لاشيني الصيفيّ, وجامع ابن طولون, ومسجد تغري بردي, ومسجد وزاوية شيخو, ومسجد جقمق, ومسجد موسى آغا الحسين. ومسجد السلطان إينال, ومسجد سيدي منصور الأنصاريّ الذي بني في أربعة أشهر عام تسعة وأربعين من القرن العشرين للميلاد, حيث شرع في تشييده في شهر أغسطس ودشّن بكماله وتمامه في شهر ديسمبر من العام نفسه, وهو الذي يقابلك من شرفة بيتك العامر إن شاء الله. وجامع الحاكم بأمر الله, ومسجد السلطان قلاوون, ومسجد ابنه محمّد, ومسجد وزاوية سعيد السعداء التي أقام فيها السيّد الشريف الجرجانيّ, ومسجد الصالح نجم الدين أيّوب, ومسجد ومدرسة سلار وسنجر, ومسجد ومدرسة الجاي اليوسفيّ, ومسجد ومدرسة الأمير سيف الدين صرغتمش الناصريّ, ومسجد ومدرسة السلطان برقوق, ومسجد وزاوية الأشرف برسباي, ومسجد الملكة الصفيّة, وجامع السلطان المؤيّد, وزاوية الغوريّ الواقعة أسفل القلعة, ومسجد محمّد عليّ ومسجدي القلعة بجواره: محمّد بن قلاوون وسليمان باشا, ومسجد البردينيّ ذلك التحفة الصدفيّة, وجامع النعمان, ومسجد حسين باشا, وأخيرا أكرمنا الله في رفقتكم بزيارة الجامع الأزهر الشريف. وتيسّر لنا النظر عن كثب إلى مسجد الغوري الكبير ووكالته, وإلى دار الكتب, والمتحف الإسلاميّ, وجامع البنات الموجود على ما أذكر قرب العتبة.
ولقد كان أوّل انطباع لي عن هذه المساجد والزوايا, التي ذكرت ممّا رأيت, ولربّما كان العدد أزيد عن هذا, بعد الإعجاب, وإن شئت القول الانبهار, هو زهادة نظرة الإكبار التي ما فتئنا نغشيها على بعض منمنمات مخطوطاتنا, ونلقيها في خطب وصف على مسامع من رآها ومن لم يرها, وكأنّ فنّ التشكيل الإسلاميّ انتهى عندها, ولدى جمالها توقّفت أنامل الخطّاطين والرسّامين, ودون أسفارها احتارت عقول الشارين والمشترين؛ وهي التي لم يزد قدم أقدمها على ثلاثة قرون أو أربعة, بينما نجد في أيّ مسجد ممّا سطرت من قمّة المنارة والقبّة, وإن تعدّدت المنارات والقباب, إلى المشارف والجدران والأعتاب, والسواري والأقواس والأبواب, والدكّة والمنبر والمحراب, كلّها مفصّلة تفصيلا ومكلّلة تكليلا, لوحات منمنمة وأنماط منمّقة وزخارف مرونقة, حال على حال, وجمال رسم في جمال أشكال, سقف وقباب كقبّة السماء تزينها الثريات والفوانيس كما لتلك البدر والنجوم. وعلى سواري المرمر مقرنصات يكتنفها النحاس المذهّب والفضّة. وإذا رأيت دكك المسمّعين عجبت لتلك التي نحتت من الرخام كما عجبت للتي نحتت من الخشب, وهي غالبا ما تكون على أربع سوار لولبيّة في قامة الرجل, لها سلّم يصعد به المسمّع إلى دكّة ربّما اتّسعت في بعض المساجد لأكثر من ستّة رجال. أمّا المنابر فذلك أمر عجب, صناعة فذّة تضنّ بها غير مصر, الأخشاب ورد وزيتون وساج ويسر, وغيرها ممّا قوي وندر, جلبت من الهند وما وراء النهر, مطعّمة في نقوشها المتناهية الدقّة بالعاج والصدف وتارة بالنحاس والفضّة في بعض الملحقات كبابيه وخزانته التي أسفله. والمحاريب معظمها بالرخام, قطع متجاورات حمر وبيض وسود مختلف ألوانها مشكّلة أنماطا هندسيّة في تداخل وتمازج وتناسق يبهت الذي يقف أمامها غير إمامها, تزينها عادة آية من القرآن الكريم, وغالبا ما تكون قوله تعالى: {ونادته الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب}. ويزين ما بين المحراب والمنبر لوحات بخطّ بديع ختّمت بالصدف والفضّة لآيات وأحاديث والأسماء الحسنى, كما رأيت في مسجد السيّدة نفيسة العلم. ولأنّ البلاد بلاد علم, فلا يكاد يخلو مسجد من عرش للعلم, كراسيّ من جنس المنابر في جمالها وجلالها يمنعان من اعتلائها غير أهلها, مكمّلة في تمام نقوشها بآية كذلك الذي في المشهد الحسينيّ: {إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا}. وغيرها في غيره. وفيهما لعظمتهما, المنابر والكراسي, تنقش أسماء صانعيها من الحرفيين الفنّانين وأسماء الآمرين بذلك والمهدين, من ملوك ورؤساء ووزراء, ليخلّد ذكر هذا وذاك, والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
وكما تبرّكنا بتلك الكراسي مجالس العارفين والعلماء, وبتلك المنابر مواقف الأئمّة والفقهاء, دخلنا إلى أخيار المداخل, وشاهدنا في خير المشاهد, مشاهد أهل بيت خير خلق الله كلّهم, عليه وعليهم معه أفضل الصلاة وأزكى التسليم, وخير المولج ولجنا ونحن نسمع أصوات المحبّين تهفو مردّدة بإنشاد في حنين: نحن في ساحة الحسين نزلنا ـ في حمى الله من أتى لحسين. روضة من رياض الروضة الشريفة, وحمى من حمى حرم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كسيه رداء عزّة ووقار, هنالك ترمق بعين الاعتبار, كيف تنكبّ هامات الرجال, على عتبات هاتيك المقامات, معفّرة الجبين وممرّغة في ثرى باب الضريح الوجوه والنواصي واليدين, مسحا ولثما وتقبيلا ورشفا من بركات ذلك المعين, ولسان حلها يقول: أمرّ على الديار ديار سلمى ـ أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا ـ وما حبّ الديار سكنّ قلبي ـ ولكن حبّ من سكن الديارا. سيّد شباب أهل الجنّة, عليك منّا سلام الله وتحيّاته وبركاته إنّه حميد مجيد. هيبة ووقار وجلال يستشعره الداخل إلى ضريحه كما لو مثل في حضرته, علت ضريحه قبّة أبدع في رسم زخارفها كلّ إبداع, وتحتها كتبت أبيات تنسب للإمام الحسين, وعلى قبره رفع التابوت بالفضّة تحوطه نقوش نباتيّة وبريق يأخذ بالبصر وبينهما برّزت آيات العرش. وحول الضريح مطاف لإخواننا الشيعة بالنحاس, يفتح لهم خاصّة في مواسمهم التي يقدمون فيها إليه من العراق والشام والخليج, إذ هم بُناته والمنفقون, ولله في خلقه شؤون.
وكذلك الحال في مقامي السيّدة زينب والسيّدة نفيسة العلم, إلاّ المطاف, وما دون ذلك ممّا ذكر في الحرم الحسينيّ يصدق عليهما ولا منّ ولا مين. وإن شئت مقارنة العمارة, وإن كان لا مجال لها ولا متّسع, ولكن على سبيل التجريد خذ نظرة بعد هذه التي سبقت إلى أحد أعظم مساجد الإسلام, إنّه مسجد محمّد عليّ باشا الكبير, ومثواه, فهو على عظمة بنائه وجمال طرازه المستوحى من مسجد آيا صوفيا, وعلى رغم ما بذل في تشييده, إلاّ أنّ السكينة لم تسكنه إلاّ قليلا, والعمارة حين على حين, وأمّا تلك فدهر الداهر عامرين, لتأسّسها على تقوى من الله ورضوان, والله متمّ نوره وغالب على أمره.
ذلك إذن ما رأيت من مساجد مصر, مساجد تأخذ باللّباب ثمّ تردّه إلى الصواب, الذي هو مصر أمّ الدنيا فاهبطوا مصرا فإنّ لكم ما سألتم, وادخلوها بسلام آمنين.
وإذ قد ذكرنا ما وفّقنا الله لزيارته من مرابض الأوتاد أولي النجدة والمكرمات, فقد يسّر لنا سبحانه بكمال فضله علينا الوقوف على بعض آثار دول المسلمين هناك, ومن أهمّها فيما رأيت قلعة المجاهد الكبير صلاح الدين الأيّوبيّ, حيث جبنا أسوارها وأغوارها, ودخلنا أنفاقها وصعدنا أبراجها, مستحضرين تفاني البناة في تشييدها, ثمّ حركة الجند فيها وسهر العسس عليها, وأخيرا وأولا إشراف صلاح الدين على كلّ ذلك وما فتح الله على يديه ونصر, من المسجد الأقصى إلى مصر, فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
ووقفنا مليّا عند باب زويلة, وتأمّلنا ذلك الصرح العتيد, الذي جمع بين متفرّقات شتّى, قوّة بناء, وعلوّ شاهق, وباب ضخم مغلّف بالنحاس, سمكه أكثر من شبر, وارتفاعه أكثر من خمسة أمتار, ناهيك عن محيطه والمنارتين اللتين تعلوانه, ومدخل علّقت فيه ذات يوم بأمر قطز والظاهر بيبرس رؤوس رسل التتار, فانقلبوا خائبين, وشاء الله تشتّت شملهم, فتكسّرت على نصال المسلمين نصالهم, بعد بغداد وشام, عند هذا الباب, وباستشعار تلك المواقف والأحداث التي تبعث على الاعتزاز والحزن, تأخذنا الهيبة من اقتحامه, ولكن, ومع هذا يدفعنا جمال في الصنعة وحبك في الرصف إلى استشراف ما بعده, إنّها القاهرة القديمة, وإنّه شارع المعزّ لدين الله الفاطميّ, الذي يصل هذا الباب بباب النصر وباب الفتوح, وإنّها الأروقة والأزقة, والدكاكين العتيقة بتحفها وصنائعها وحرفييها, والمساجد والمدارس والزوايا والتكايا والكتاتيب وعمّارها, والأقواس والمشربيّات المعلّقة, والمقاهي وروّادها, وسبل الماء وما اكتنفت من رونق وجمال, وحركة المارّة الكثيفة وصخب الصبية, وكلّ ما قد ينقل الناظر فيه إلى قرون سلفت.
لك أن تصطحب في عبورك هذا الشارع القرطبيّ والسيوطيّ والمرتضى الزبيديّ والخليل بن إسحاق المالكيّ وزكريا الأنصاريّ والشاذليّ والجرجانيّ والبكريّ والقسطلانيّ والبوصيريّ وابن الفارض وابن خلدون وذا النون وغيرهم من علماء وأدباء وشعراء وأمراء وحكّاما وصالحين, وصولا إلى الجامع الأزهر الشريف, ولمن تأمّل فيه إن شاء تأمّلا, أن بستحضر فيه من شاء بقدر معرفته أو نيّته. ولدى رواق المغاربة فيه اقتنيت من أحد باعة الكتب فتوح الشام للواقديّ.
ومنه إلى ميدان الحسين, وقد ذكرنا, ثمّ إلى خان الخليليّ, الذي امتاز بضيق أزقّته مع كثافة متاجره, وتنوّع بضائعه, أين اقتنيت سبحة من خشب الأبنوس.ولم استخلص من جولتي في الخان إلاّ مشاهدة بركات من استجاروه, الإمام الحسين عليه سلام الله تعالى, وهذا المشهود والمشهور في مشاهد أهل البيت, وهو من دلالات عموم بركاتهم وتواتر نفحاتهم وتواصل كراماتهم المقتبسات من نوره صلوات الله وسلامه عليه وعليهم. ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم. وقد يقول القائل إنّما هي أضرحة بنيت على غير أهلها, فنقول ولا ضير, فالله تعالى يقول: {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} ومعلوم أنّ الاهتداء إنّما هو بمواقع النجوم, إذ هي قد رحلت عنها منذ ملايين السنين, ولذلك قال سبحانه: {فلا أقسم بمواقع النجوم}. ثمّ نقول هل ما نتحدّث به والأسماء التي نطلقها هي ذاتها تلك الحروف التي ننقش على الحجر والخشب ونخطّها بأيدينا على الورق وعلى الحواسيب وربّما كتبناها بالأشعّة في جوّ السماء, اللهمّ لا, وإنّما هي رموز لمعان, وكذلك المشاهد. ولقد رأيت بملىء العين كيف اقتادت المشيئة الإلهيّة منظّمين ومسيّرين إلى إقامة ملتقى الفكر الإسلاميّ بمناسبة رمضان عند أعتاب الحسين, لا كما يفترضه الحال عند أو في الجامع الأزهر, مع ما للجامع الأزهر من قداسة في النفوس. هذا؛ فضلا عن العاكفين القائمين والركّع السجود, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وقادتنا الخطى إلى مقربة من هناك حيث بيت السحيميّ, الذي كان لأحد فضلاء مصر, وأكرم به من بيت في رونق الطراز العربيّ الإسلاميّ, نحتت في رقاب أسقفه قصيدة البردة للإمام البوصيريّ, مطلعها في بهو الاستقبال, ولم أدرك آخرها, إذ يتيه في جماله رائيه كما يتوه فيه داخله. وكذلك الشأن تقريبا في بيت زينب خاتون المجاور للأزهر, وبيت شاه بندر التجّار قرب الدردير, وبيت الهرّاويّ الذي جعل منه بيتا للعود, وصادفت فيه عازفين, نقلتني تقاسيمهم العتاق, ورنين أوتار عيدانهم, وأنين صدى ذلك البهو القديم, في تجاوب معها, إلى زمن عبده الحموليّ وسيّد درويش وزكريا أحمد والسنباطيّ, فسبحان من جبل النفوس على حبّ كلّ صوت جميل, ويزيد الله في الخلق ما يشاء.
وزرنا من بعد ذلك وكالة بازرعة, وهي على نسق الفنادق, ولكنّها مخصّصة للتجّارآنذاك, يكري فيها التاجر مخزنا لبضائعه, وقاعة استقبال تعلوه تسمّى السلملك, وبيتا يعلوهما يعدّ جناحا خاصّا بالتاجر وأهله, ويدعى الحرملك, على طريقة الأتراك في التسمية. وربّما كانت وكالة الغوريّ الشهيرة كذلك, إذ لم يتسنّ لي دخولها بحكم أعمال الترميم. والرأي لو اتّخذ من هذه الوكالات فنادق راقية لكان أحسن, فعدم إقبال السائحين عليها كمعالم, أضفى عليها نوعا من التهميش, فعسى بهذا التغيير ارتقت إلى محلّها اللاّئق بها وأفادت واستفادت.
وتسنّت لنا زيارة المتاحف الموجودة في القلعة, متحف الشرطة, والمتحف القوميّ الذي أقيم في قصر محمّد علي باشا الكبير, والذي هو في ذاته تحفة معماريّة يستحقّ أن يرى ويجال في أجنحته على هذا الاعتبار. ومررنا كذلك بمتحف مراكب الأسرة المالكة, ودار الضيافة وغير ذلك ممّا في القلعة.
كما زرنا متحف أندرسون المحاذي لجامع ابن طولون, وهو بقدر ما جمع فيه صاحبه من التحف الشرقيّة, وبقدر ما حاول أن يطبعه بطابع مصر, إلاّ أنّه لم ينجح في استجلاب روح المكان وسحر الشرق الذي لا يتأتّى إلاّ لأهله, بل إنّ رائحة الغرب محت قليل ما بقى من نفحة الموقع.
ولعلّ من أجمل المتاحف التي أبهجني النظر إليها, متحف قصر المنيل, لمحمّد علي باشا الصغير, الذي عرف بسعة اطّلاعه وثقافته المزدوجة, وحبّه للفنّ المعماري, الذي أثبته وأجلاه في قصره هذا الذي ابتناه جامعا في ملاحقه كلّ مدارس المعمار الإسلاميّة, فالمنارة مغربيّة, وقاعة العرش تركيّة, وبهو الاستقبال مصريّ, والمجالس أندلسيّة, وغير ذلك من الشام وعراق, ولاسيما المسجد الذي هو أبهى تحفة في المتحف فكان على أكمل صورة خلصت به من نمط المسجد إلى رونق القصر وردّته إلى الأول فتمّ جماله والحمد لله.
وأمّا أكبر المتاحف فكان لا شكّ متحف القاهرة, الذي غلب على معروضاته أثر الفراعنة, ولعلّ أجمل ما أبدع فيه هؤلاء ما كان في عهد توت عنخ آمون, آثار دقّ صنعها وبذخ نوعها وكثر صنفها حتّى خيّل لي أنّها صنعت البارحة, تماثيل زينة ولعب قدر الأنامل نحتت بإبداع عجيب, وغيرها مثلها في الدقّة شاهقة ضخمة, وما بين هاتين لا حصر له. أسرّة وكراس قابلة للطيّ كالتي تعدّ في عصرنا للأسفار. وعروش وأسرة ومتّكآت ونعال وأوان وصناديق ومقلمات وأدوات زينة وصيد, كلّ ذلك وغير ذلك من ذهب, حتّى لم يعد لقسم الحليّ كبير قيمة. ولقد أعدّت بعض هذه الأدوات لموتاهم تدفن معهم ليستأنفوا بها حياتهم الأخرى كما ظنّوا. وهذا يشير إلى مبلغهم من العلم والقوّة التي لم يرتدعوا معهما إلاّ للموت الذي أخذوا يحتاطون له جهد طاقتهم, فأعدّوا لموتاهم ما ذكرنا ومعه اللباس, وخصّصوها لهم في حجر مدافنهم, ونقشوا في المدافن أبوابا وهميّة تتسلّل منها الروح للخارج بزعمهم, وتستغلّ ما أعدّ لها كما شاءت. وجعلوا للميّت تابوتا من حجر يزن أطنانا نحت بشكل الفراعنة, وإلى جنبه وضعت أربع توابيت صغيرة بنفس الشكل, يوضع في كلّ واحد منها أحشاءه, واحد للأمعاء وآخر للرئتين وثالث للقلب والأخير للكبد على ما أذكر. وتوضع هذه التوابيت في صندوق مذهّب تزينه النقوش ظهرا وبطنا لعلّها, لترفع عن ساكنها وحشة الموت, إن فكّروا فيها.
وساق تحدّيهم هذا فضولي إلى الوقوف على قسم المومياء في المتحف, فرأيتها سبحان الله مسترجعا, أجسام لها آلاف السنين ماثلة بين يدي, وتذكّرت قوله تعالى: {اليوم ننجّيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية}. وإنّ في تلك الأبدان الهامدة على شبه حالتها الأصليّة منذ حقب وأمم لمن أعظم الآيات. وأجلت النظر فيهم الواحد تلو الآخر, وأقول لدى كلّ واحد لعلّك أنت صاحب إبراهيم أو أنت صاحب يوسف أو انّك صاحب موسى, حضارة استمرّت نحو ثلاثة آلاف سنة, وتبدّد آخرها منذ ثلاثمائة وألفي سنة, والأبدان أبدان, فسبحان من كلّ يوم هو في شأن. وحثثت الخطى بعد ذاك إلى الوقوف على تمثال أبي الهول والأهرام, فألفيتها شامخة كشموخ حضارة بناتها, خيام شاهقة في تلك الصحاري في صمود تتكسّر دونه قساوة الطبيعة, أحكم بناؤها كما أحكمت صنعة أدقّ الأدوات والتماثيل, ودخلت أكبرها, خوفو, على ما أذكر, وصعدت إلى حيث مختنق الأنفاس فيها, ولم أجد إلاّ صهريجا لغسل الأموات, فولّيت متعجّبا من مفارقة ظاهره لباطنه, مسجّلا في الذاكرة شبح الموت الذي طارد الفراعنة ظلّه فلم يحفظ التاريخ من آثارهم إلاّ ما أعدّ وتعلّق بأمواتهم, وتساءلت عن الهرم أهو الصرح الذي أمر فرعون هامان ببنائه ليطّلع إلى إله موسى وحسب, أم أنّه يدّخر في جوفه أسرارا تكافئ ضخامته, وهذا الراجح لما قيل لي أنّ فيه قاعات أخر ثمان, تزين جدرانها نقوش ورسوم تحكي أساطيرهم وتصوّر ملوكهم.
وعلى كلّ فقد استفدت من زيارة الجيزة ومتحف القاهرة أنّ صناعة بعض الأدوات والوسائل والأمتعة التي كان الظنّ بها من مبتكرات عصر النهضة أو قبيله, إنّما هي سابقة لدى الفراعنة, كما ربّما نقلوها هم عن غيرهم ممّن سلف, وأهمّ منه أن فهمت سبب ورود اسم فرعون في القرآن الكريم أكثر من سبعين مرّة. وهكذا قضوا, وصاروا هم وآثارهم آيات لمن اعتبر, ولله الأمر من قبل ومن بعد.
هذا؛ وإن نسيت فلا أنسى مسيرنا من جزيرة المنيل وموقفنا على جسر الجامعة في ليالي القاهرة, متأمّلين تناغم أضوائها على صفحات ماء النيل كاتبة صورا من أجمل الذكريات في أرقّ كلمات, تمحوها القوارب واليوخوت بعنفوانها مدّا تارة وردّا تارة أخرى, فتعيد مصرنا رقمها شيئا على شئ حتّى كأنّها أحلى وأجلى, وكأنّي بشوقي قصد موقفنا حين قال: ذكرت مصر ومن أهوى ومجلسنا على الجزيرة بين الجسر والنهر.
وكما قيّدت هذا فلا بدّ من ذكر تلك الحدائق الوارفة التي اجتزنا في مسلكنا إلى جامعة القاهرة, وأسجّل ميدان التحرير, وميدان طلعت حرب الذي اشتريت فيه من مكتبة المدبوليّ كتاب الموسوعة الصوفيّة لعبد المنعم الحفنيّ سليل شيخنا محمّد بن سالم الحفنيّ, وزرت ميدان رمسيس, والعتبة, والموسكي, وشارع الهرم, وشارع محمّد عليّ حيث اصطنعت ختما لي, والمقطّم, وقطب أقباط الأقباط الكنيسة المعلّقة, ومن شارع المنيرة إلى التحرير عرجت على دار روز اليوسف ومنها اشتريت مجموعة من أعمال توفيق الحكيم, وأيضا دار الكتاب العربيّ ودار المعارف ودار الكتاب المصريّ ودار الكتاب اللبنانيّ ودار الشعب وإلى غير ذلك من المواقع التي جبنا فيها وأبنا ورأينا عن كثب وعدنا, وأخصّها وأعزّها مهوى الفؤاد ومراد الأجواد ومراض الفكر ومسرح النظر ومقصد الرجال ومحطّ الآمال ومرتق فتق الخيال, ومخزن الكنوز, قبلة الأقلام ومقتبلها, حدائق الأزبكيّة, فلكأنّما الخاطر منّي تعلّقها عرضا, والأذن تعشق قبل العين أحيانا, فللّه من بناها ولله من رعاها ولله من وعاها, ولله ما سحنا فيها ولله ما غنمنا منها, أحبب إليّ بذاك الجزع منزلة بالطلح طلحا وبالأعطان أعطانا. على الآكام وفوق الدروب وتحت الشجر, فرشت كتب تردفها كتب, فالدكاكين دواوين والدواوين أواوين, فلا أكبر من ذلك منظر ولا أكمل مخبر ولا أكثر مسبر في نون, والقلم وما يسطرون, فالحمد لله على ما أكرمني والشكر له.عناوين بحثت عنها سنين عددا في البلاد وخارجها ولم أظفر بطائل, ووجدّتها في أول يوم زرت فيه الأزبكيّة, الحلّة السيراء لابن الأبّار, والجواهر الخمس للعطّار, والشريعة والطريقة للكاندهلوي,ّ ومقاتل الطالبيين للأصفهانيّ, وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان في ترجمته الكاملة بعشرة أجزاء, وإنّها لمن الدرر التي اقتنيت, وممّا عثرت عليه وتركت, فهرس مخطوطات دار الكتب المصريّة, وفهرس مخطوطات اسطمبول, ومكتوبات الإمام النورسيّ, والمثنوي لمولانا جلال الدين الروميّ بالترجمتين العربيّة والفرنسيّة في ستّة أجزاء, نسأل الله التوفيق.
وزرت فيما زرت المركز الفرنسيّ للثقافة والتعاون بالقاهرة, مع أخي المصطفى, الموظّف في قسم الترجمة فيه, وصادفت فيه معرضا للكتب اقتنيت منه بالاهداء من مصطفى, آيات الصمود لفاني كولونا الذي ساهم في ترجمته, والمدرسة التاريخيّة المصريّة لمحمّد عفيفي, والإسلام والحداثة لمجموعة باحثين, وترجمة إلى الفرنسيّة لأعداد السنة الأولى من جريدة المقتطف, وفهرس منشورات المعهد العلميّ الفرنسيّ للآثار الشرقيّة.
وإذ قد يسّر الله لي هذه الرحلة في أواخر شهر شعبان, فقد حباني بحضور الأيام الأولى من شهر رمضان الكريم في القاهرة, وأنعم بالضيف والمضيف, إعدادات حثيثة لاستقبال الشهر المعظّم سبقته بأيام, فترى القاهرة كلّ ليلة تزداد أضواؤها في المساجد والشوارع والعمائر والدوائر, فما هلّ هلاله حتّى استوى ليلها بنهارها, وقام النّاس بالدجى كسعيهم بالضحى, فوصل هذا بذاك, وفتح الأغنياء أبواب صدقاتهم وزكواتهم للفقراء والمعوزين على مصراعيها, ونزّلت أسعار الغذاء إلى أدنى ما تكون, ومدّت موائد الرحمن بامتداد الطرقات, وحفّت بكلّ خير من كلّ خير ولكلّ خير, وأكثر أكلاتهم شعبيّة الفول المدمّس, والكشريّ, والكباب, والفراخ المحشيّة, والشيش طاووق, والرزّ بالمكسّرات, والحمام المحشيّ. ويعتمدون على لحم عجول البقر أو ما يسمّونه البتلّو. أمّا المشروبات فقمر الدين, وقصب السكّر, وعصير الليمون, والمنجة, وعرق السوس, والصوبيا, والمشكّل. والقهوة التركية والشاي, وغير ذلك ممّا لذّ وطاب مطعما ومشربا.
وتمّ فضل الله هناك على عبده الضعيف آنذاك بحضور صلاة التراويح في مسجد الحسين, وسيق الذين اتّقوا ربّهم إليه جماعات جماعات, ويرفع المؤذّن صوته بالتلاوة مجوّدا قبل الإقامة فتقشعر جلود الذين يخشون ربّهم, ونادى الإمام قبيل الصلاة توجّهوا إلى الله واتركوا الدنيا وراءكم واخشعوا في صلاتكم وصلّوا صلاة المودّع, ثمّ كبّر, فلانت قلوب المؤمنين وجلودهم إلى ذكر الله, ذلك هدى الله يهدي به من يشاء, وترى السقاة قائمين على القائمين يسقونهم حينا بعد حين, وروائح العطر والبخور تتسلّل من لدى العطّارين, وبعد كلّ تسليمة يرفع الإمام والمصلّون أصواتهم بالدعاء والتضرّع, ثمّ يستأنفون, حتّى كان دعاء القنوت اهتزّت الصدور وذرفت العيون وتعلّقت الأيدي بالسماء كأنّها تشدّ ستار الكعبة, أو مستمسكة بحبل الله في الأرض, وتلك السنّة الغرّاء, مؤمّنين على الدعاء في تذلّل وانكسار وخضوع للواحد الأحد الكريم, مستحضرين قوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعا إنّه هو الغفور الرحيم}.
وهذا ما تيسّر لي تقييده عن رحلتي إلى أرض الكنانة التي استغرقت أسبوعين, عشرا في شعبان وخمسا في رمضان من عام أربعة وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة, الموافق للنصف الأخير من شهر أكتوبر عام ثلاثة وألفين للميلاد, ولا شكّ أنّني أهملت كثيرا, وحسبي أنّني قيّدت شيئا وإذا اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة.
وأخيرا؛ أرجع فضل هذه الزيارة بعد الله إليك يا أخي المصطفى, فجزاك الله عنّي خيرا, على ما بذلت من وقتك ومالك, وأكثر منهما كريم استقبالك, فدمت لأخيك أخا صدق, وإنّي لا زلت أمسح أيّامي هاته بنفحات تلك, فأجلس تارة في شرفة بيتك مطلا على القلعة, وتارة في مطعم الدلفين السعيد, ومرة أسايرك في السوق ومرّة في الحسين, فالله يحفظك ويحفظ بك ويحفظ لك بما حفظ به الذكر الحكيم, وييسّر لك أمورك كلّها, ويوفّق للصالحات مسعاك, ويزيدك نجاحا على نجاح, ويبلّغك آمالك وفوق ما تروم, بجاه رسول الله وبجاه كلّ ذي جاه, آمين. وإنّي مفاخر بأعمالك هنا ومباه الأقران, ولكن في تحفّظ, وأذكّرك بالمناسبة بما كان الوالد يردّده إذا اجتمعنا أو فرادى عن والده عن والده, فقله على نفسك وعلى أهلك كلّما سنحت الفرصة: حصّنتكم ونفسي بالحيّ الذي لا يموت أبدا, ودفعت عنّي وعنكم كلّ سوء وأذى بألف ألف لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
والسلام عليكم, وإلى أن يجمعنا الله على بساط الهناء والعافية أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
أخوكم محمّد فؤاد بن الخليل القاسميّ الحسنيّ
جولة في القاهرة
بقلم : محمّد فؤاد القاسمي الحسني
الحمد لله ربّ السماوات وربّ الأرض ربّ العالمين, الذي جعل لنا الأرض ذلولا وأمرنا بالسير في مناكبها, والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا وحبيبنا محمّد وعلى آله أهل بيته الطيّبين الطاهرين وخلفائه الراشدين والانصار والمهاجرين وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إلى السيّد ابن السيّد؛ الأخ الأعزّ الفاضل الأستاذ مصطفى, وأهل بيته, سلام من السلام عليكم, ورحمته تعالى تراوحكم وبركاته تغاديكم, وبعد السؤال عن أحوالكم أجراها الله وفق مرادكم, وآتاكم سبحانه من كلّ ما سألتموه, وزادكم من نعمائه وإفضاله فوق ما تريدون, وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة, وفتح علينا وعليكم فتح العارفين به, المقرّين بوحدانيّته, الشاهدين لجماله مع جلاله في كلّ لمحة ونفس. آمين
فها أنا ذا؛ ليلة الاثنين السادس عشر من رمضان المعظّم بتقويم مصر, أفيق رويدا من القاهرة, وكأن لم يكن وصلها إلاّ حلما في الكرى أو خلسة المختلس, وبمحض فضل الله, كان حقيقة, بسمة المشرق في محيّا المغرب, جعلك الله فيها خير واسطة وسبب, غنمت منها أوّلا وقبل كلّ شيء حضور فرحكم الذي طالما تمنّيت مع كلّ أهلكم هنا من الأسرة مشاركتكم فيه, ولكن قدّر الله أن أكون بمفردي معكم فيه, نيابة, ولعلّ في ذلك كفاية وبركة إن شاء الله, وهم لم يكونوا أقلّ حرصا منّي, وأنتم الأهل لأكثر من ذلك, ولكنّ الأمور ما تعلم, والعذر منك مأمول, والله نسأل أن يوفّق الكلّ لمباركة فرحكم والمشاركة فيه بما استطاعوا, راجين من الله أن يجعل زواجكم الميمون مكلّلا بالرفاه والبنين والعشرة الطيّبة والذريّة الصالحة والسعادة في الدارين, إنّه سميع مجيب الدعاء.
هذا؛ وقد تشبّعت في رحلتي هذه بزيارة تلك الأراضي المباركة الطيّبة, وتشرّفت فيها بالوقوف على أعتاب حضرات أهل البيت عليهم السلام, ومقامات الأئمّة والصالحين والعارفين؛ زادنا الله وإيّاكم حبّا فيهم وتشبّثا بهم وزيارات إليهم.
لقد عددت المعالم التي زرنا من الذاكرة والمذكّرات فوجدتها خيرا كثيرا؛ فبعد مسجد سيّدنا الحسين والسيّدة زينب والسيّدة نفيسة العلم, زرنا مسجد السيّدة رقيّة بنت الإمام عليّ بن أبي طالب, وضريح السيّدة عاتكة بنت عمر بن نفيل عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, وضريح السيّد عليّ محمّد بن الإمام جعفر الصادق, ومسجد السيّد محمّد الأنور, عمّ السيّدة نفيسة. ثمّ مقام السيّدة سكينة, عليهم جميعا السلام, وهؤلاء كلّهم في شارع الأشرف إلاّ الثلاثة الأوائل.
كما زرنا باقتضاب شاءه الله مسجد الإمام الشافعيّ ومسجد السيّدة عائشة وقرافة مصر, نفعنا الله ببركات صالحيها, وتبرّكنا بجامع الصحابيّ عمرو ابن العاص, ومسجد الإمام الدردير, وصاحبه السباعيّ, عليهم جميعا رضوان الله.
ووقفنا على المسجد الذي بنته خوشيار هانم أم الخديوي إسماعيل على ضريح الشيخ أبي الشباك عليّ الرفاعيّ, وضجعائه من الصالحين الأنصاريّ والغوريّ والشيخونيّ والمزاريقي, وهو كما قرأت فيما بعد كان الأصل في المكان الزاوية البيضاء, التي ضمّت رفات هؤلاء الشيوخ, وعمدت خوشيار إلى هدم الزاوية وبناء أثر لها يخلّد اسمها وتدفن فيه, ودفن فيه الملوك فؤاد وأمّه, وفاروق وشاه إيران.
ومن المساجد التي تعلّق نظري بها, دخولا لبعضها, ووقوفا عند أبواب بعضها الآخر, في طريقي سيرا من البحر الصغيّر إلى القلعة فالحرم الحسينيّ, دون ترتيب: مسجد السلطان حسن المقابل للرفاعيّ, ومسجد لاشيني الصيفيّ, وجامع ابن طولون, ومسجد تغري بردي, ومسجد وزاوية شيخو, ومسجد جقمق, ومسجد موسى آغا الحسين. ومسجد السلطان إينال, ومسجد سيدي منصور الأنصاريّ الذي بني في أربعة أشهر عام تسعة وأربعين من القرن العشرين للميلاد, حيث شرع في تشييده في شهر أغسطس ودشّن بكماله وتمامه في شهر ديسمبر من العام نفسه, وهو الذي يقابلك من شرفة بيتك العامر إن شاء الله. وجامع الحاكم بأمر الله, ومسجد السلطان قلاوون, ومسجد ابنه محمّد, ومسجد وزاوية سعيد السعداء التي أقام فيها السيّد الشريف الجرجانيّ, ومسجد الصالح نجم الدين أيّوب, ومسجد ومدرسة سلار وسنجر, ومسجد ومدرسة الجاي اليوسفيّ, ومسجد ومدرسة الأمير سيف الدين صرغتمش الناصريّ, ومسجد ومدرسة السلطان برقوق, ومسجد وزاوية الأشرف برسباي, ومسجد الملكة الصفيّة, وجامع السلطان المؤيّد, وزاوية الغوريّ الواقعة أسفل القلعة, ومسجد محمّد عليّ ومسجدي القلعة بجواره: محمّد بن قلاوون وسليمان باشا, ومسجد البردينيّ ذلك التحفة الصدفيّة, وجامع النعمان, ومسجد حسين باشا, وأخيرا أكرمنا الله في رفقتكم بزيارة الجامع الأزهر الشريف. وتيسّر لنا النظر عن كثب إلى مسجد الغوري الكبير ووكالته, وإلى دار الكتب, والمتحف الإسلاميّ, وجامع البنات الموجود على ما أذكر قرب العتبة.
ولقد كان أوّل انطباع لي عن هذه المساجد والزوايا, التي ذكرت ممّا رأيت, ولربّما كان العدد أزيد عن هذا, بعد الإعجاب, وإن شئت القول الانبهار, هو زهادة نظرة الإكبار التي ما فتئنا نغشيها على بعض منمنمات مخطوطاتنا, ونلقيها في خطب وصف على مسامع من رآها ومن لم يرها, وكأنّ فنّ التشكيل الإسلاميّ انتهى عندها, ولدى جمالها توقّفت أنامل الخطّاطين والرسّامين, ودون أسفارها احتارت عقول الشارين والمشترين؛ وهي التي لم يزد قدم أقدمها على ثلاثة قرون أو أربعة, بينما نجد في أيّ مسجد ممّا سطرت من قمّة المنارة والقبّة, وإن تعدّدت المنارات والقباب, إلى المشارف والجدران والأعتاب, والسواري والأقواس والأبواب, والدكّة والمنبر والمحراب, كلّها مفصّلة تفصيلا ومكلّلة تكليلا, لوحات منمنمة وأنماط منمّقة وزخارف مرونقة, حال على حال, وجمال رسم في جمال أشكال, سقف وقباب كقبّة السماء تزينها الثريات والفوانيس كما لتلك البدر والنجوم. وعلى سواري المرمر مقرنصات يكتنفها النحاس المذهّب والفضّة. وإذا رأيت دكك المسمّعين عجبت لتلك التي نحتت من الرخام كما عجبت للتي نحتت من الخشب, وهي غالبا ما تكون على أربع سوار لولبيّة في قامة الرجل, لها سلّم يصعد به المسمّع إلى دكّة ربّما اتّسعت في بعض المساجد لأكثر من ستّة رجال. أمّا المنابر فذلك أمر عجب, صناعة فذّة تضنّ بها غير مصر, الأخشاب ورد وزيتون وساج ويسر, وغيرها ممّا قوي وندر, جلبت من الهند وما وراء النهر, مطعّمة في نقوشها المتناهية الدقّة بالعاج والصدف وتارة بالنحاس والفضّة في بعض الملحقات كبابيه وخزانته التي أسفله. والمحاريب معظمها بالرخام, قطع متجاورات حمر وبيض وسود مختلف ألوانها مشكّلة أنماطا هندسيّة في تداخل وتمازج وتناسق يبهت الذي يقف أمامها غير إمامها, تزينها عادة آية من القرآن الكريم, وغالبا ما تكون قوله تعالى: {ونادته الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب}. ويزين ما بين المحراب والمنبر لوحات بخطّ بديع ختّمت بالصدف والفضّة لآيات وأحاديث والأسماء الحسنى, كما رأيت في مسجد السيّدة نفيسة العلم. ولأنّ البلاد بلاد علم, فلا يكاد يخلو مسجد من عرش للعلم, كراسيّ من جنس المنابر في جمالها وجلالها يمنعان من اعتلائها غير أهلها, مكمّلة في تمام نقوشها بآية كذلك الذي في المشهد الحسينيّ: {إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا}. وغيرها في غيره. وفيهما لعظمتهما, المنابر والكراسي, تنقش أسماء صانعيها من الحرفيين الفنّانين وأسماء الآمرين بذلك والمهدين, من ملوك ورؤساء ووزراء, ليخلّد ذكر هذا وذاك, والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
وكما تبرّكنا بتلك الكراسي مجالس العارفين والعلماء, وبتلك المنابر مواقف الأئمّة والفقهاء, دخلنا إلى أخيار المداخل, وشاهدنا في خير المشاهد, مشاهد أهل بيت خير خلق الله كلّهم, عليه وعليهم معه أفضل الصلاة وأزكى التسليم, وخير المولج ولجنا ونحن نسمع أصوات المحبّين تهفو مردّدة بإنشاد في حنين: نحن في ساحة الحسين نزلنا ـ في حمى الله من أتى لحسين. روضة من رياض الروضة الشريفة, وحمى من حمى حرم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كسيه رداء عزّة ووقار, هنالك ترمق بعين الاعتبار, كيف تنكبّ هامات الرجال, على عتبات هاتيك المقامات, معفّرة الجبين وممرّغة في ثرى باب الضريح الوجوه والنواصي واليدين, مسحا ولثما وتقبيلا ورشفا من بركات ذلك المعين, ولسان حلها يقول: أمرّ على الديار ديار سلمى ـ أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا ـ وما حبّ الديار سكنّ قلبي ـ ولكن حبّ من سكن الديارا. سيّد شباب أهل الجنّة, عليك منّا سلام الله وتحيّاته وبركاته إنّه حميد مجيد. هيبة ووقار وجلال يستشعره الداخل إلى ضريحه كما لو مثل في حضرته, علت ضريحه قبّة أبدع في رسم زخارفها كلّ إبداع, وتحتها كتبت أبيات تنسب للإمام الحسين, وعلى قبره رفع التابوت بالفضّة تحوطه نقوش نباتيّة وبريق يأخذ بالبصر وبينهما برّزت آيات العرش. وحول الضريح مطاف لإخواننا الشيعة بالنحاس, يفتح لهم خاصّة في مواسمهم التي يقدمون فيها إليه من العراق والشام والخليج, إذ هم بُناته والمنفقون, ولله في خلقه شؤون.
وكذلك الحال في مقامي السيّدة زينب والسيّدة نفيسة العلم, إلاّ المطاف, وما دون ذلك ممّا ذكر في الحرم الحسينيّ يصدق عليهما ولا منّ ولا مين. وإن شئت مقارنة العمارة, وإن كان لا مجال لها ولا متّسع, ولكن على سبيل التجريد خذ نظرة بعد هذه التي سبقت إلى أحد أعظم مساجد الإسلام, إنّه مسجد محمّد عليّ باشا الكبير, ومثواه, فهو على عظمة بنائه وجمال طرازه المستوحى من مسجد آيا صوفيا, وعلى رغم ما بذل في تشييده, إلاّ أنّ السكينة لم تسكنه إلاّ قليلا, والعمارة حين على حين, وأمّا تلك فدهر الداهر عامرين, لتأسّسها على تقوى من الله ورضوان, والله متمّ نوره وغالب على أمره.
ذلك إذن ما رأيت من مساجد مصر, مساجد تأخذ باللّباب ثمّ تردّه إلى الصواب, الذي هو مصر أمّ الدنيا فاهبطوا مصرا فإنّ لكم ما سألتم, وادخلوها بسلام آمنين.
وإذ قد ذكرنا ما وفّقنا الله لزيارته من مرابض الأوتاد أولي النجدة والمكرمات, فقد يسّر لنا سبحانه بكمال فضله علينا الوقوف على بعض آثار دول المسلمين هناك, ومن أهمّها فيما رأيت قلعة المجاهد الكبير صلاح الدين الأيّوبيّ, حيث جبنا أسوارها وأغوارها, ودخلنا أنفاقها وصعدنا أبراجها, مستحضرين تفاني البناة في تشييدها, ثمّ حركة الجند فيها وسهر العسس عليها, وأخيرا وأولا إشراف صلاح الدين على كلّ ذلك وما فتح الله على يديه ونصر, من المسجد الأقصى إلى مصر, فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
ووقفنا مليّا عند باب زويلة, وتأمّلنا ذلك الصرح العتيد, الذي جمع بين متفرّقات شتّى, قوّة بناء, وعلوّ شاهق, وباب ضخم مغلّف بالنحاس, سمكه أكثر من شبر, وارتفاعه أكثر من خمسة أمتار, ناهيك عن محيطه والمنارتين اللتين تعلوانه, ومدخل علّقت فيه ذات يوم بأمر قطز والظاهر بيبرس رؤوس رسل التتار, فانقلبوا خائبين, وشاء الله تشتّت شملهم, فتكسّرت على نصال المسلمين نصالهم, بعد بغداد وشام, عند هذا الباب, وباستشعار تلك المواقف والأحداث التي تبعث على الاعتزاز والحزن, تأخذنا الهيبة من اقتحامه, ولكن, ومع هذا يدفعنا جمال في الصنعة وحبك في الرصف إلى استشراف ما بعده, إنّها القاهرة القديمة, وإنّه شارع المعزّ لدين الله الفاطميّ, الذي يصل هذا الباب بباب النصر وباب الفتوح, وإنّها الأروقة والأزقة, والدكاكين العتيقة بتحفها وصنائعها وحرفييها, والمساجد والمدارس والزوايا والتكايا والكتاتيب وعمّارها, والأقواس والمشربيّات المعلّقة, والمقاهي وروّادها, وسبل الماء وما اكتنفت من رونق وجمال, وحركة المارّة الكثيفة وصخب الصبية, وكلّ ما قد ينقل الناظر فيه إلى قرون سلفت.
لك أن تصطحب في عبورك هذا الشارع القرطبيّ والسيوطيّ والمرتضى الزبيديّ والخليل بن إسحاق المالكيّ وزكريا الأنصاريّ والشاذليّ والجرجانيّ والبكريّ والقسطلانيّ والبوصيريّ وابن الفارض وابن خلدون وذا النون وغيرهم من علماء وأدباء وشعراء وأمراء وحكّاما وصالحين, وصولا إلى الجامع الأزهر الشريف, ولمن تأمّل فيه إن شاء تأمّلا, أن بستحضر فيه من شاء بقدر معرفته أو نيّته. ولدى رواق المغاربة فيه اقتنيت من أحد باعة الكتب فتوح الشام للواقديّ.
ومنه إلى ميدان الحسين, وقد ذكرنا, ثمّ إلى خان الخليليّ, الذي امتاز بضيق أزقّته مع كثافة متاجره, وتنوّع بضائعه, أين اقتنيت سبحة من خشب الأبنوس.ولم استخلص من جولتي في الخان إلاّ مشاهدة بركات من استجاروه, الإمام الحسين عليه سلام الله تعالى, وهذا المشهود والمشهور في مشاهد أهل البيت, وهو من دلالات عموم بركاتهم وتواتر نفحاتهم وتواصل كراماتهم المقتبسات من نوره صلوات الله وسلامه عليه وعليهم. ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم. وقد يقول القائل إنّما هي أضرحة بنيت على غير أهلها, فنقول ولا ضير, فالله تعالى يقول: {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} ومعلوم أنّ الاهتداء إنّما هو بمواقع النجوم, إذ هي قد رحلت عنها منذ ملايين السنين, ولذلك قال سبحانه: {فلا أقسم بمواقع النجوم}. ثمّ نقول هل ما نتحدّث به والأسماء التي نطلقها هي ذاتها تلك الحروف التي ننقش على الحجر والخشب ونخطّها بأيدينا على الورق وعلى الحواسيب وربّما كتبناها بالأشعّة في جوّ السماء, اللهمّ لا, وإنّما هي رموز لمعان, وكذلك المشاهد. ولقد رأيت بملىء العين كيف اقتادت المشيئة الإلهيّة منظّمين ومسيّرين إلى إقامة ملتقى الفكر الإسلاميّ بمناسبة رمضان عند أعتاب الحسين, لا كما يفترضه الحال عند أو في الجامع الأزهر, مع ما للجامع الأزهر من قداسة في النفوس. هذا؛ فضلا عن العاكفين القائمين والركّع السجود, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وقادتنا الخطى إلى مقربة من هناك حيث بيت السحيميّ, الذي كان لأحد فضلاء مصر, وأكرم به من بيت في رونق الطراز العربيّ الإسلاميّ, نحتت في رقاب أسقفه قصيدة البردة للإمام البوصيريّ, مطلعها في بهو الاستقبال, ولم أدرك آخرها, إذ يتيه في جماله رائيه كما يتوه فيه داخله. وكذلك الشأن تقريبا في بيت زينب خاتون المجاور للأزهر, وبيت شاه بندر التجّار قرب الدردير, وبيت الهرّاويّ الذي جعل منه بيتا للعود, وصادفت فيه عازفين, نقلتني تقاسيمهم العتاق, ورنين أوتار عيدانهم, وأنين صدى ذلك البهو القديم, في تجاوب معها, إلى زمن عبده الحموليّ وسيّد درويش وزكريا أحمد والسنباطيّ, فسبحان من جبل النفوس على حبّ كلّ صوت جميل, ويزيد الله في الخلق ما يشاء.
وزرنا من بعد ذلك وكالة بازرعة, وهي على نسق الفنادق, ولكنّها مخصّصة للتجّارآنذاك, يكري فيها التاجر مخزنا لبضائعه, وقاعة استقبال تعلوه تسمّى السلملك, وبيتا يعلوهما يعدّ جناحا خاصّا بالتاجر وأهله, ويدعى الحرملك, على طريقة الأتراك في التسمية. وربّما كانت وكالة الغوريّ الشهيرة كذلك, إذ لم يتسنّ لي دخولها بحكم أعمال الترميم. والرأي لو اتّخذ من هذه الوكالات فنادق راقية لكان أحسن, فعدم إقبال السائحين عليها كمعالم, أضفى عليها نوعا من التهميش, فعسى بهذا التغيير ارتقت إلى محلّها اللاّئق بها وأفادت واستفادت.
وتسنّت لنا زيارة المتاحف الموجودة في القلعة, متحف الشرطة, والمتحف القوميّ الذي أقيم في قصر محمّد علي باشا الكبير, والذي هو في ذاته تحفة معماريّة يستحقّ أن يرى ويجال في أجنحته على هذا الاعتبار. ومررنا كذلك بمتحف مراكب الأسرة المالكة, ودار الضيافة وغير ذلك ممّا في القلعة.
كما زرنا متحف أندرسون المحاذي لجامع ابن طولون, وهو بقدر ما جمع فيه صاحبه من التحف الشرقيّة, وبقدر ما حاول أن يطبعه بطابع مصر, إلاّ أنّه لم ينجح في استجلاب روح المكان وسحر الشرق الذي لا يتأتّى إلاّ لأهله, بل إنّ رائحة الغرب محت قليل ما بقى من نفحة الموقع.
ولعلّ من أجمل المتاحف التي أبهجني النظر إليها, متحف قصر المنيل, لمحمّد علي باشا الصغير, الذي عرف بسعة اطّلاعه وثقافته المزدوجة, وحبّه للفنّ المعماري, الذي أثبته وأجلاه في قصره هذا الذي ابتناه جامعا في ملاحقه كلّ مدارس المعمار الإسلاميّة, فالمنارة مغربيّة, وقاعة العرش تركيّة, وبهو الاستقبال مصريّ, والمجالس أندلسيّة, وغير ذلك من الشام وعراق, ولاسيما المسجد الذي هو أبهى تحفة في المتحف فكان على أكمل صورة خلصت به من نمط المسجد إلى رونق القصر وردّته إلى الأول فتمّ جماله والحمد لله.
وأمّا أكبر المتاحف فكان لا شكّ متحف القاهرة, الذي غلب على معروضاته أثر الفراعنة, ولعلّ أجمل ما أبدع فيه هؤلاء ما كان في عهد توت عنخ آمون, آثار دقّ صنعها وبذخ نوعها وكثر صنفها حتّى خيّل لي أنّها صنعت البارحة, تماثيل زينة ولعب قدر الأنامل نحتت بإبداع عجيب, وغيرها مثلها في الدقّة شاهقة ضخمة, وما بين هاتين لا حصر له. أسرّة وكراس قابلة للطيّ كالتي تعدّ في عصرنا للأسفار. وعروش وأسرة ومتّكآت ونعال وأوان وصناديق ومقلمات وأدوات زينة وصيد, كلّ ذلك وغير ذلك من ذهب, حتّى لم يعد لقسم الحليّ كبير قيمة. ولقد أعدّت بعض هذه الأدوات لموتاهم تدفن معهم ليستأنفوا بها حياتهم الأخرى كما ظنّوا. وهذا يشير إلى مبلغهم من العلم والقوّة التي لم يرتدعوا معهما إلاّ للموت الذي أخذوا يحتاطون له جهد طاقتهم, فأعدّوا لموتاهم ما ذكرنا ومعه اللباس, وخصّصوها لهم في حجر مدافنهم, ونقشوا في المدافن أبوابا وهميّة تتسلّل منها الروح للخارج بزعمهم, وتستغلّ ما أعدّ لها كما شاءت. وجعلوا للميّت تابوتا من حجر يزن أطنانا نحت بشكل الفراعنة, وإلى جنبه وضعت أربع توابيت صغيرة بنفس الشكل, يوضع في كلّ واحد منها أحشاءه, واحد للأمعاء وآخر للرئتين وثالث للقلب والأخير للكبد على ما أذكر. وتوضع هذه التوابيت في صندوق مذهّب تزينه النقوش ظهرا وبطنا لعلّها, لترفع عن ساكنها وحشة الموت, إن فكّروا فيها.
وساق تحدّيهم هذا فضولي إلى الوقوف على قسم المومياء في المتحف, فرأيتها سبحان الله مسترجعا, أجسام لها آلاف السنين ماثلة بين يدي, وتذكّرت قوله تعالى: {اليوم ننجّيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية}. وإنّ في تلك الأبدان الهامدة على شبه حالتها الأصليّة منذ حقب وأمم لمن أعظم الآيات. وأجلت النظر فيهم الواحد تلو الآخر, وأقول لدى كلّ واحد لعلّك أنت صاحب إبراهيم أو أنت صاحب يوسف أو انّك صاحب موسى, حضارة استمرّت نحو ثلاثة آلاف سنة, وتبدّد آخرها منذ ثلاثمائة وألفي سنة, والأبدان أبدان, فسبحان من كلّ يوم هو في شأن. وحثثت الخطى بعد ذاك إلى الوقوف على تمثال أبي الهول والأهرام, فألفيتها شامخة كشموخ حضارة بناتها, خيام شاهقة في تلك الصحاري في صمود تتكسّر دونه قساوة الطبيعة, أحكم بناؤها كما أحكمت صنعة أدقّ الأدوات والتماثيل, ودخلت أكبرها, خوفو, على ما أذكر, وصعدت إلى حيث مختنق الأنفاس فيها, ولم أجد إلاّ صهريجا لغسل الأموات, فولّيت متعجّبا من مفارقة ظاهره لباطنه, مسجّلا في الذاكرة شبح الموت الذي طارد الفراعنة ظلّه فلم يحفظ التاريخ من آثارهم إلاّ ما أعدّ وتعلّق بأمواتهم, وتساءلت عن الهرم أهو الصرح الذي أمر فرعون هامان ببنائه ليطّلع إلى إله موسى وحسب, أم أنّه يدّخر في جوفه أسرارا تكافئ ضخامته, وهذا الراجح لما قيل لي أنّ فيه قاعات أخر ثمان, تزين جدرانها نقوش ورسوم تحكي أساطيرهم وتصوّر ملوكهم.
وعلى كلّ فقد استفدت من زيارة الجيزة ومتحف القاهرة أنّ صناعة بعض الأدوات والوسائل والأمتعة التي كان الظنّ بها من مبتكرات عصر النهضة أو قبيله, إنّما هي سابقة لدى الفراعنة, كما ربّما نقلوها هم عن غيرهم ممّن سلف, وأهمّ منه أن فهمت سبب ورود اسم فرعون في القرآن الكريم أكثر من سبعين مرّة. وهكذا قضوا, وصاروا هم وآثارهم آيات لمن اعتبر, ولله الأمر من قبل ومن بعد.
هذا؛ وإن نسيت فلا أنسى مسيرنا من جزيرة المنيل وموقفنا على جسر الجامعة في ليالي القاهرة, متأمّلين تناغم أضوائها على صفحات ماء النيل كاتبة صورا من أجمل الذكريات في أرقّ كلمات, تمحوها القوارب واليوخوت بعنفوانها مدّا تارة وردّا تارة أخرى, فتعيد مصرنا رقمها شيئا على شئ حتّى كأنّها أحلى وأجلى, وكأنّي بشوقي قصد موقفنا حين قال: ذكرت مصر ومن أهوى ومجلسنا على الجزيرة بين الجسر والنهر.
وكما قيّدت هذا فلا بدّ من ذكر تلك الحدائق الوارفة التي اجتزنا في مسلكنا إلى جامعة القاهرة, وأسجّل ميدان التحرير, وميدان طلعت حرب الذي اشتريت فيه من مكتبة المدبوليّ كتاب الموسوعة الصوفيّة لعبد المنعم الحفنيّ سليل شيخنا محمّد بن سالم الحفنيّ, وزرت ميدان رمسيس, والعتبة, والموسكي, وشارع الهرم, وشارع محمّد عليّ حيث اصطنعت ختما لي, والمقطّم, وقطب أقباط الأقباط الكنيسة المعلّقة, ومن شارع المنيرة إلى التحرير عرجت على دار روز اليوسف ومنها اشتريت مجموعة من أعمال توفيق الحكيم, وأيضا دار الكتاب العربيّ ودار المعارف ودار الكتاب المصريّ ودار الكتاب اللبنانيّ ودار الشعب وإلى غير ذلك من المواقع التي جبنا فيها وأبنا ورأينا عن كثب وعدنا, وأخصّها وأعزّها مهوى الفؤاد ومراد الأجواد ومراض الفكر ومسرح النظر ومقصد الرجال ومحطّ الآمال ومرتق فتق الخيال, ومخزن الكنوز, قبلة الأقلام ومقتبلها, حدائق الأزبكيّة, فلكأنّما الخاطر منّي تعلّقها عرضا, والأذن تعشق قبل العين أحيانا, فللّه من بناها ولله من رعاها ولله من وعاها, ولله ما سحنا فيها ولله ما غنمنا منها, أحبب إليّ بذاك الجزع منزلة بالطلح طلحا وبالأعطان أعطانا. على الآكام وفوق الدروب وتحت الشجر, فرشت كتب تردفها كتب, فالدكاكين دواوين والدواوين أواوين, فلا أكبر من ذلك منظر ولا أكمل مخبر ولا أكثر مسبر في نون, والقلم وما يسطرون, فالحمد لله على ما أكرمني والشكر له.عناوين بحثت عنها سنين عددا في البلاد وخارجها ولم أظفر بطائل, ووجدّتها في أول يوم زرت فيه الأزبكيّة, الحلّة السيراء لابن الأبّار, والجواهر الخمس للعطّار, والشريعة والطريقة للكاندهلوي,ّ ومقاتل الطالبيين للأصفهانيّ, وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان في ترجمته الكاملة بعشرة أجزاء, وإنّها لمن الدرر التي اقتنيت, وممّا عثرت عليه وتركت, فهرس مخطوطات دار الكتب المصريّة, وفهرس مخطوطات اسطمبول, ومكتوبات الإمام النورسيّ, والمثنوي لمولانا جلال الدين الروميّ بالترجمتين العربيّة والفرنسيّة في ستّة أجزاء, نسأل الله التوفيق.
وزرت فيما زرت المركز الفرنسيّ للثقافة والتعاون بالقاهرة, مع أخي المصطفى, الموظّف في قسم الترجمة فيه, وصادفت فيه معرضا للكتب اقتنيت منه بالاهداء من مصطفى, آيات الصمود لفاني كولونا الذي ساهم في ترجمته, والمدرسة التاريخيّة المصريّة لمحمّد عفيفي, والإسلام والحداثة لمجموعة باحثين, وترجمة إلى الفرنسيّة لأعداد السنة الأولى من جريدة المقتطف, وفهرس منشورات المعهد العلميّ الفرنسيّ للآثار الشرقيّة.
وإذ قد يسّر الله لي هذه الرحلة في أواخر شهر شعبان, فقد حباني بحضور الأيام الأولى من شهر رمضان الكريم في القاهرة, وأنعم بالضيف والمضيف, إعدادات حثيثة لاستقبال الشهر المعظّم سبقته بأيام, فترى القاهرة كلّ ليلة تزداد أضواؤها في المساجد والشوارع والعمائر والدوائر, فما هلّ هلاله حتّى استوى ليلها بنهارها, وقام النّاس بالدجى كسعيهم بالضحى, فوصل هذا بذاك, وفتح الأغنياء أبواب صدقاتهم وزكواتهم للفقراء والمعوزين على مصراعيها, ونزّلت أسعار الغذاء إلى أدنى ما تكون, ومدّت موائد الرحمن بامتداد الطرقات, وحفّت بكلّ خير من كلّ خير ولكلّ خير, وأكثر أكلاتهم شعبيّة الفول المدمّس, والكشريّ, والكباب, والفراخ المحشيّة, والشيش طاووق, والرزّ بالمكسّرات, والحمام المحشيّ. ويعتمدون على لحم عجول البقر أو ما يسمّونه البتلّو. أمّا المشروبات فقمر الدين, وقصب السكّر, وعصير الليمون, والمنجة, وعرق السوس, والصوبيا, والمشكّل. والقهوة التركية والشاي, وغير ذلك ممّا لذّ وطاب مطعما ومشربا.
وتمّ فضل الله هناك على عبده الضعيف آنذاك بحضور صلاة التراويح في مسجد الحسين, وسيق الذين اتّقوا ربّهم إليه جماعات جماعات, ويرفع المؤذّن صوته بالتلاوة مجوّدا قبل الإقامة فتقشعر جلود الذين يخشون ربّهم, ونادى الإمام قبيل الصلاة توجّهوا إلى الله واتركوا الدنيا وراءكم واخشعوا في صلاتكم وصلّوا صلاة المودّع, ثمّ كبّر, فلانت قلوب المؤمنين وجلودهم إلى ذكر الله, ذلك هدى الله يهدي به من يشاء, وترى السقاة قائمين على القائمين يسقونهم حينا بعد حين, وروائح العطر والبخور تتسلّل من لدى العطّارين, وبعد كلّ تسليمة يرفع الإمام والمصلّون أصواتهم بالدعاء والتضرّع, ثمّ يستأنفون, حتّى كان دعاء القنوت اهتزّت الصدور وذرفت العيون وتعلّقت الأيدي بالسماء كأنّها تشدّ ستار الكعبة, أو مستمسكة بحبل الله في الأرض, وتلك السنّة الغرّاء, مؤمّنين على الدعاء في تذلّل وانكسار وخضوع للواحد الأحد الكريم, مستحضرين قوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعا إنّه هو الغفور الرحيم}.
وهذا ما تيسّر لي تقييده عن رحلتي إلى أرض الكنانة التي استغرقت أسبوعين, عشرا في شعبان وخمسا في رمضان من عام أربعة وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة, الموافق للنصف الأخير من شهر أكتوبر عام ثلاثة وألفين للميلاد, ولا شكّ أنّني أهملت كثيرا, وحسبي أنّني قيّدت شيئا وإذا اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة.
وأخيرا؛ أرجع فضل هذه الزيارة بعد الله إليك يا أخي المصطفى, فجزاك الله عنّي خيرا, على ما بذلت من وقتك ومالك, وأكثر منهما كريم استقبالك, فدمت لأخيك أخا صدق, وإنّي لا زلت أمسح أيّامي هاته بنفحات تلك, فأجلس تارة في شرفة بيتك مطلا على القلعة, وتارة في مطعم الدلفين السعيد, ومرة أسايرك في السوق ومرّة في الحسين, فالله يحفظك ويحفظ بك ويحفظ لك بما حفظ به الذكر الحكيم, وييسّر لك أمورك كلّها, ويوفّق للصالحات مسعاك, ويزيدك نجاحا على نجاح, ويبلّغك آمالك وفوق ما تروم, بجاه رسول الله وبجاه كلّ ذي جاه, آمين. وإنّي مفاخر بأعمالك هنا ومباه الأقران, ولكن في تحفّظ, وأذكّرك بالمناسبة بما كان الوالد يردّده إذا اجتمعنا أو فرادى عن والده عن والده, فقله على نفسك وعلى أهلك كلّما سنحت الفرصة: حصّنتكم ونفسي بالحيّ الذي لا يموت أبدا, ودفعت عنّي وعنكم كلّ سوء وأذى بألف ألف لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
والسلام عليكم, وإلى أن يجمعنا الله على بساط الهناء والعافية أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
أخوكم محمّد فؤاد بن الخليل القاسميّ الحسنيّ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق