المسعدي
وتوجد إن علمت ولو فقدتا
عبد القادر بن إبراهيم المسعديّ النائليّ 1376 - 1302 هـ / 1956 - 1884 م
إنّ من البيان لسحرا، وإنّ من الأدب لرونقا وجمالا، فسبحان الذي أخرج حديثه من حيّه، ومرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج، ومن كلّ يؤكل طريّ وتستخرج حليّ. كانت الكلمة وقد غنيت عن التجمّل تفئد القلوب لأنّها استنزلت منها فنزلت فيها، وآلت وقد اصطحبت ما شيء لها ولا تجاوز الحناجر.
بدا لي أن أنشر الرسالة التالية بعد ما تجافى الأدب وسار على أخمصه سير الوجل، وتردّدت خشية أن تضلّل الطريق في زمن طمست فيه معالم وبدّلت أخرى، وتاه في شعاب مكّة أهلها، فتقع بين يدي من استوت عنده الأمور استواء غفلة، فيوسعها بنعته راشحا بما فيه، ووقفت بين منع الحكمة أهلها ومنحها غير أهلها، موقف الراعي حول الحمى، والحال أنّنا في حيّز اجتزأ من اسمه نصيبا، تتدافع أقسامه فيه ولا تلوي على شيء كمحاولتها نقض موجود وإيجاد منعدم، فتنشر أمواتا نشرات ويقبر أحياء مقبورون، وينعم أخوها في الشقاوة، ومن تفقّد شطر العنوان وجد صدره: وتفقد إن جهلت وأنت باق... ولكنّ حسن الظنّ حالف، فلا عدم المجال وعاة جمال، يعطون لكلّ ذي حقّ حقّه وينصف رأيهم منتصفا، وما ينفع يمكث ويبني للمعالي إنّما يرفع اللّه ومن شاء وضع.
كتب عادل نويهض عن صاحب الرسالة في الصفحة 298 من كتابه أعلام الجزائر سطورا، إذا أغنت فلا تسمن، والأمر نفسه في الشعر الدينيّ الجزائريّ الحديث للدكتور عبد اللّه ركيبي في الفصل الأول من الباب الأوّل، صفحة 188، وفي الملحق، صفحة 721، ولم ينأ عنهما في ذلك الدكتور سعد اللّه في تاريخ الجزائر الثقافي، الصفحة 46 من الجزء الثامن، والأرجح أنّ العيب ليس منهم لافتقارهم للمادّة وللوقت الذي يفترض بذله للتأريخ، وليس فيمن يملكونهما لافتقارهم إلى الأدوات ولعدم تطلّعهم إلى الغايات المنشودة في هذا الزمن، والسؤال لا يبقى مطروحا، لعدم جدواه، فالأهمّ منه الآن هو البحث عن سيرة هذا الرجل الذي ترك من التراث الأدبي ما فيه متّسع لباحث يبحث.
فنسبة صاحبنا إلى أولاد نائل تكفي لمعرفة أصله، فالأصل والفرع أشهر من نار على علم، وقد يكون تحديدا من بني عبد الرحمن بن سالم نظرا إلى مدحه إيّاهم في الرسالة. ونسبته إلى مسعد تفيد المدينة الواقعة في ولاية الجلفة إلى الجنوب منها تجاه مدينة الأغواط. ويستفاد من الرسالة كونها موجّهة إلى الشيخ محمّد بن عبد الرحمن الديسيّ [1] ملاحظتان، الأوّلى أنّها جواب على رسالة، خاصة أو عامّة، من الديسيّ إلى المسعديّ موضوعها أدبيّ، لا يستبعد تعدّد مثيلاتها لتكون في شكل النقائض الأدبيّة أو المطارحات الشعريّة، ولكن في مستوى العلاقة بين أديب وأستاذه لما يستشفّ من تدبيج الكاتب ونعته المرسل إليه بمولانا، وقد نستدلّ على هذا بما في ديوان الديسيّ من ممازحة للمسعديّ بقوله:
حقيق بالملامة عبد قادر * ومن يجفو الأحبّة فهو غادر * أمثل اليونسيّة لا يراعي * وشرع الحبّ بالإنصاف آمر * ولو أنصفتها لأتيت حبوا * فسلطان المحبّة أعلى قاهر * ولطف الطبع جذّاب لهذا * وظنّي أنّ حظّك فيه وافر * فإن لم تأت منقادا إليها * فطعبة في رعيل المجد آخر * [2]
وهذا قد يدفعنا إلى الاستفهام عن زمان ومكان تحصيل المسعديّ، وعن شيوخه في هذا الفنّ وفي غيره. الملاحظة الثانية أنّها كتبت قبل تاريخ وفاة الديسيّ طبعا، أي قبل 1922 م، ويكون الكاتب حينها في عزّ شبابه، وبما أنّه جاوز السبعين، فلا شكّ أنّ تراثه الأدبي يكون زاخرا، ولاسيما إذا علمنا من نويهض والركيبيّ أنّه ترك ديوان شعر، وشرحا للامية الأفعال لابن مالك، وما علمناه من روايات شفويّة أنّه ترك شرحا وجيزا للشمقمقيّة التي مطلعها: مهلا على رسلك حادي الأينق * ولا تكلّفها بما لم تطق. لصاحبها ابن ونّان الحميريّ، [3]. وترك أيضا (طرفة البيان في نظم تحفة الإخوان) وهي شرح لنظم الشيخ الطاهر العبيّديّ [4]، لتحفة البيان للدردير [5]، وهذه الطرفة موجودة عند أحد تلامذته في مدينة الجلفة، وأكاد أجزم أن للكاتب آثارا أخرى يطويها إهمال من دنوا ومن نأوا. وأشير في الأخير إلى ما اتّفق عليه نويهض والركيبي من أنّ المسعديّ شاعر تقليديّ وُسم بانضمامه إلى جمعيّة العلماء المسلمين، ولم يلتفت أحد منهما إلى نثره. وهاهي الرسالة أقدّمها مجرّدة مثبتا ما عرفته، راجيا أن يجد الزرع منابت:
عبد القادر بن إبراهيم المسعديّ النائليّ 1376 - 1302 هـ / 1956 - 1884 م
إنّ من البيان لسحرا، وإنّ من الأدب لرونقا وجمالا، فسبحان الذي أخرج حديثه من حيّه، ومرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج، ومن كلّ يؤكل طريّ وتستخرج حليّ. كانت الكلمة وقد غنيت عن التجمّل تفئد القلوب لأنّها استنزلت منها فنزلت فيها، وآلت وقد اصطحبت ما شيء لها ولا تجاوز الحناجر.
بدا لي أن أنشر الرسالة التالية بعد ما تجافى الأدب وسار على أخمصه سير الوجل، وتردّدت خشية أن تضلّل الطريق في زمن طمست فيه معالم وبدّلت أخرى، وتاه في شعاب مكّة أهلها، فتقع بين يدي من استوت عنده الأمور استواء غفلة، فيوسعها بنعته راشحا بما فيه، ووقفت بين منع الحكمة أهلها ومنحها غير أهلها، موقف الراعي حول الحمى، والحال أنّنا في حيّز اجتزأ من اسمه نصيبا، تتدافع أقسامه فيه ولا تلوي على شيء كمحاولتها نقض موجود وإيجاد منعدم، فتنشر أمواتا نشرات ويقبر أحياء مقبورون، وينعم أخوها في الشقاوة، ومن تفقّد شطر العنوان وجد صدره: وتفقد إن جهلت وأنت باق... ولكنّ حسن الظنّ حالف، فلا عدم المجال وعاة جمال، يعطون لكلّ ذي حقّ حقّه وينصف رأيهم منتصفا، وما ينفع يمكث ويبني للمعالي إنّما يرفع اللّه ومن شاء وضع.
كتب عادل نويهض عن صاحب الرسالة في الصفحة 298 من كتابه أعلام الجزائر سطورا، إذا أغنت فلا تسمن، والأمر نفسه في الشعر الدينيّ الجزائريّ الحديث للدكتور عبد اللّه ركيبي في الفصل الأول من الباب الأوّل، صفحة 188، وفي الملحق، صفحة 721، ولم ينأ عنهما في ذلك الدكتور سعد اللّه في تاريخ الجزائر الثقافي، الصفحة 46 من الجزء الثامن، والأرجح أنّ العيب ليس منهم لافتقارهم للمادّة وللوقت الذي يفترض بذله للتأريخ، وليس فيمن يملكونهما لافتقارهم إلى الأدوات ولعدم تطلّعهم إلى الغايات المنشودة في هذا الزمن، والسؤال لا يبقى مطروحا، لعدم جدواه، فالأهمّ منه الآن هو البحث عن سيرة هذا الرجل الذي ترك من التراث الأدبي ما فيه متّسع لباحث يبحث.
فنسبة صاحبنا إلى أولاد نائل تكفي لمعرفة أصله، فالأصل والفرع أشهر من نار على علم، وقد يكون تحديدا من بني عبد الرحمن بن سالم نظرا إلى مدحه إيّاهم في الرسالة. ونسبته إلى مسعد تفيد المدينة الواقعة في ولاية الجلفة إلى الجنوب منها تجاه مدينة الأغواط. ويستفاد من الرسالة كونها موجّهة إلى الشيخ محمّد بن عبد الرحمن الديسيّ [1] ملاحظتان، الأوّلى أنّها جواب على رسالة، خاصة أو عامّة، من الديسيّ إلى المسعديّ موضوعها أدبيّ، لا يستبعد تعدّد مثيلاتها لتكون في شكل النقائض الأدبيّة أو المطارحات الشعريّة، ولكن في مستوى العلاقة بين أديب وأستاذه لما يستشفّ من تدبيج الكاتب ونعته المرسل إليه بمولانا، وقد نستدلّ على هذا بما في ديوان الديسيّ من ممازحة للمسعديّ بقوله:
حقيق بالملامة عبد قادر * ومن يجفو الأحبّة فهو غادر * أمثل اليونسيّة لا يراعي * وشرع الحبّ بالإنصاف آمر * ولو أنصفتها لأتيت حبوا * فسلطان المحبّة أعلى قاهر * ولطف الطبع جذّاب لهذا * وظنّي أنّ حظّك فيه وافر * فإن لم تأت منقادا إليها * فطعبة في رعيل المجد آخر * [2]
وهذا قد يدفعنا إلى الاستفهام عن زمان ومكان تحصيل المسعديّ، وعن شيوخه في هذا الفنّ وفي غيره. الملاحظة الثانية أنّها كتبت قبل تاريخ وفاة الديسيّ طبعا، أي قبل 1922 م، ويكون الكاتب حينها في عزّ شبابه، وبما أنّه جاوز السبعين، فلا شكّ أنّ تراثه الأدبي يكون زاخرا، ولاسيما إذا علمنا من نويهض والركيبيّ أنّه ترك ديوان شعر، وشرحا للامية الأفعال لابن مالك، وما علمناه من روايات شفويّة أنّه ترك شرحا وجيزا للشمقمقيّة التي مطلعها: مهلا على رسلك حادي الأينق * ولا تكلّفها بما لم تطق. لصاحبها ابن ونّان الحميريّ، [3]. وترك أيضا (طرفة البيان في نظم تحفة الإخوان) وهي شرح لنظم الشيخ الطاهر العبيّديّ [4]، لتحفة البيان للدردير [5]، وهذه الطرفة موجودة عند أحد تلامذته في مدينة الجلفة، وأكاد أجزم أن للكاتب آثارا أخرى يطويها إهمال من دنوا ومن نأوا. وأشير في الأخير إلى ما اتّفق عليه نويهض والركيبي من أنّ المسعديّ شاعر تقليديّ وُسم بانضمامه إلى جمعيّة العلماء المسلمين، ولم يلتفت أحد منهما إلى نثره. وهاهي الرسالة أقدّمها مجرّدة مثبتا ما عرفته، راجيا أن يجد الزرع منابت:
رسالة المسعدي
الحمد للّه والصلاة والسلام على رسول اللّه. صبيحة ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر. أفضل من أسلمت إليه العلوم زمامها، وأكمل من نشرت عليه الفهوم أعلامها، وأعلى من أعلى منار البيان، وأغلى من علا على خيول التبيان في ميادين العرفان، وغذته البلاغة باللبان، الشيخ سيّدنا محمّد ابن عبد الرحمن. أمّا بعد إهداء سلام يزري بزاهرات الجوق الجوهر، على ترائب الشادن الأحور، والجؤذر الأزهر، والخشف الأعفر، وتحيّات تعطّر بندّها النادي، ويعنو لها الحاضر والبادي، ويحدو بها الحادي، ويشدو بها الشادي، فقد ورد علينا كتاب مولانا المزري بالرياض النواضر، والعيون النواظر، والغيون المواطر، والزهر الزواهر، والبحور الزواخر، متّسقة ألفاظه ولا اتّساق الجواهر، فللّه أنت يا مولانا، لقد أصبت الغرض، وأصبيت المتنسّك والمعترض، بكلام ضاهى قول ابن أبي ربيعة دقّه ورقّه، وسهام كسهم النميريّ إذ عرض، فكنت واسطة عقد الواسطة، وابن بجدة المعارف واللّطائف والطرائف الطريفة والتالدة، وكنت الواسطة، فلا خبا أوارك ولا حار، ولا خفى فخارك ولا خار. هذا وإنّ مولانا ادّعى أنّ جوابنا أحفظه بنبوء عن المقصود غلظ لفظه وغلطه في غلوّه الفاحش المردود، إلى غير ذلك ممّا هنالك، فضحك المملوك حتّى استلقى، وقهقه وما استشاط غلقا ولا استطار فرقا، ولا دعته ميعة النشاط إلى اشتطاط ولا التطاط، لأنّ المحلّ محلّ ممازحة ومطايبة، لا مطارحة ومعاتبة ومعايبة، وقد ضمّنا وإيّاه منتدى المكارمة والمنادمة، لا محفل المخاضمة والملاكمة والمحاكمة، وفرق بين الجدّ والهزل، والجور والعدل، والثريا والندى، والمعام والكرى، ولولا خشية الإفراط والإلعاط لقلت أنّ المولى أكّد بنفسه التهمة وحقّق الظنّة بإفراط، وتحلّى منها بالدمالج والأقراط، وما هول به، أيّده اللّه، من أنّه يجعل الرسالة زيدونيّة بالشواهد والأمثال، على أنّه من أهل السلم والضال، فالمولى أهل لكلّ مثال، فضلا عن القيل والقال والمراء والجدال، فنحن نعزم عليه إن أعاد المكاتبة أو رام المطايبة، أن يجنّبنا قال العارف والسلطان والصوفي ومذهب القوم، فإنّ إيراد ألفاظهم في مثل هذا الموضع وضع لها في غير موضعها، واستعمال لها في غير موضوعها، وليعلم مولانا، وإن رأى عنده ذلك ممّا يستحسن لتأهّله لفهم حقيقته، فإنّه عند عبده ممّا يستهجن لنضوب قريحته، ولكن في أشعار الأدباء والظرفاء متّسع، ولا يقول كلّ الحذاء يحتذي الوقع، وإن كان ممّن يؤثر البادية والجياد العادية، ويعادي التمدّن والرقّة وإن شحطت له الشقّة، وليس حبّه بالخيتعور، فليغد ولا يعدو أقوال أصحاب الجزور، فإنّ الناس عليهم عالة وإن أحسنوا وأفادوا وأبدعوا وأجادوا في المقالة، وفي المثل: كلّ الصيد في جوف الفرا، وهو قال ما كان أن يفترى، ولمّا فتح علينا المالك باب الملاحظة والمواخذة والمناضلة والمنابزة، بتتبّع الكلمات ودفع البيّنات ونصب مجانيق المعارضات ومخانيق المعاتبات التي كادت أن تفضي به إلى المعايبات: أكلّ خليل هكذا غير منصف * وكلّ زمان بالكرام بخيل. فما للسيّد عند المملوك إلاّ ما يسرّ ولا يضرّ، وليس هو ممّن ينشد وينشر: مالك عندي غير سهم وحجر * وغير كبداء شديدة الوتر. بل أقول: هنيئا مريئا غير داء مخامر * لعزّة من أعراضنا ما استحلّتِ. ولقد علم مولانا أنّ باهلة وإن تسربلت أو تبرقعت لا تخيب عند المباهله، فأنا لا أقول كصالح في ثمود، كما يقول من كظّه الجمود، ولكن كابن قريب في باهله، حقّق اللّه منيتي قبل منيّتي، وجعلني لها أهلا وهي بي آهله، أوليس قد قيل: العالم كالكعبة يزهد فيه القرباء ويأتيه الغرباء. بلادي وإن جارت عليّ عزيزة * وأهلي وإن شحّوا عليّ كرام. وقد أوجبتم علينا الردّ بالأرق المجدّي وهذا ممّا يردّ دعوى التحشّر والتبدّي، وفي المثل: صديقك من صدقك لا من صدّقك، فأما أنا فقد وسعني ما وسع عليّ بن الجهم في حضرة المعتصم وباللّه أعتصم. وإنّما ذكرنا له ما ذكرنا لنسبر غور دعواه ونعلم حقيقة ما توخّاه، وفي المثل: ربّ ملوم لا ذنب له، لعلّ لها عذرا وأنت تلوم. ثمّ إنّ المالك ما اكتفى باهتضام جانبنا حتّى شنع على عمر بن أبي ربيعة وأورد كلامه مثالا لريح الصماح والمرق الشنيعة، وإذا كان مولانا يستقدر المشاء والدم ويدّعي النسك، فإنّ ذلك من الغزال هو المسك، فلو كان ابن أبي ربيعة ينشر لقدعه ولبس له جلد النمر ولات حين مفرّ، وظاهر بين درعي المهلهل في حرب البسوس وجسّاس، وانتضى صمصامة عمرو وقال له أليس الإيناس قبل الإبساس، ولا ينفعه حينئذ هجو ولا تقريظ، وحال الجريض دون القريض، ولكان له معه يوم وأيّ يوم، وما يوم حليمة بسرّ. وسؤال مولانا عن الساقي يوم بعلبك ودمشق لعمرو التغلبيّ، مع أنّ الكلام ليس مع ابن كلثوم ولا الموضوع فيه، وهو بريء من بادية الشام، وإنّما الكلام مع مولانا وهو مولد مدرى، وقد سبق بينه وبين البادية خصام وإلزام وإلحاح وإبرام، فكيف يستوي ذو الظنّة والبرئ، أم هل يستوي البدويّ والحضريّ، والفرق بين الرجلين ظاهر بالدليل إن لم يكن عن الإنصاف مظاهرا بالقيل، وفي المثل: أنّى يلتقي السها وسهيل، والتي سارت مشرّقة، والمنكح الثريا سهيلا، قد سمعت به أيّها النبيل. نعم؛ إذا أراد مولانا رفع الملام وقطع الكلام فليمدح بدونا كما كان ذمّه لأنّه لا يغسل ذمّه إلاّ بمدحه، ولا تسبر ركيته بغير متحه، فبذلك نحالفه ولا نخالفه ونوافقه فلا نفارقه ونلاطفه فنعاطفه ونَلزمه ولا نُلزمه ونواصله فلا نفاصله ونؤلّفه فلا نكلّفه ونعطيه ولا نستعطيه ونرضيه ونسترضيه ونؤمّره ولا نأمره ونشكره فلا نكفره، ونتوّجه ونزوّجه ولا نحوجه، ونبقى معه كندماني جديمة إلى أن يؤوب القارظان ويبلى الجديدان ويذهب الأطيبان ويفنى الأسودان ويعود الشباب ويبيضّ القار والغراب، وبعد ذلك نخلد سيرته في بطون الدفاتر، بل نكتبها بالخناجر على الحناجر، ونقول كم ترك أوّل لآخر، هذا كلّه بعد أن نسامحه في إرادة الانتقال التي تشهد عليه أنّه مرتاد، لا يلقي عصاه في بلاد، إذ لو كان حليف غرام وأسير هيام ما زام ولا تحوّل ولو نبا به المنزل، ومعلوم أوصاف المحبّ التذلّل لا التدلّل أو التحوّل والتنقّل، ومع ذلك، إنّ المولى لم يحسن التنقّل والتسيار، فكان كمن استجار من الرمضاء بالنار، فسار متعسّفا على غير طريق، وسفّه رأي المشفق والصديق، ألقى الصحيفة كي يخفّف رحله، والزاد، حتّى نعله ألقاها. أمّا نحن، فلن يعدم منّا مناصحا على تجافيه، ومذ انتحانا وجب تلافيه، فنقول إن دعاك هوى بني سعد والهوى أمر قسريّ وحكم قهري، فلا يعدمنك سعد، وإن كنت مرتادا مستنصحا، وبرأي الأودّاء مستصبحا، فلك في بقر الهادية ما يشغلك عن ظباء البادية، فإنّهن معروفات بالنفور، موصوفات بالحبّ الخيتعور، وإنّما نساء كلب خلقن لرجال كلب، فهذا دواء من طبّ لمن حب. إذا لم تستطع شيئا فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع. وإن هوى بك هوى الكرائم إلى ركوب العظائم وإمضاء العزائم وإنضاء الكرائم، وقلت لأستسهلنّ الصعب وأركب الأخطار لبلوغ الأوطار، فأنخ بفناء اخوتنا وأخوالنا بني عبد الرحمن بن سالم، فإنّك جدير بأن تلقى المنى وتلغي العنا، فهو رأس نائل، وأجلّ من بذل النائل، وأفرس من ركب، وأفضل من وهب، وأحمى للذمار، وأبعد عن العار، وأضرب للسيف، وأنأى من كلّ حيف، فلتحيى بجوار يحيى، وأنت السعيد بمساعدة السعيد، فإن أسعداك بالمحالفة فقد أمنت المخالفة، فنقّري ما شئت أن تنقّري، ولك الخيار لدى الأخيار وهم أحقّ بقول الشاعر: ونكرم جارنا ما دام فينا * ونتبعه الكرامة حيث مالا. هذا وإنّ مولانا ادّعى أنّ البيتين أفخر ما قيل في البوادي، وأجلّ ما تعطّرت به النوادي، وذلك على رجوع الضمير من يتوضّعن للساكنات دور دمشق، وهو أمر لا يخلو من إيهام، عنه تنبو بعض الأفهام، وعلى تسليم أنّ لا إيهام ولا موضع لكلام، فإنّ الصماح والمرق لو وضعا في البحر لكدّراه وتعطّلت فيه المنشآت الجواري، أو سميا إلى السماء لانشقّت وحارت فيها الكنّس الجواري، فانكدرت نجومها وتوالت غيومها، أو بديا في البادية لنسفا الرمال وأنزلا العصم من ضُحد الجبال، أو حضرا الحاضرة لهدمت القصور وتوالى الديجور واستوى الإناث والذكور، فمبالغته عليه مردودة عقلا ونقلا وعاده، فلا أسعدته السعادة ولا فدته الإفادة ولا أجابته الإجاده، فلا حبّ عنده فيعذر، ولا قِلى لديه فيذكر، فسواء قوله وبوله، والتعصّب لا يزيل خبث المرق والصماح، وما عسى أن تفعل صيحة في واد وإن عاط المتعصّب وصاح، فناطح بذوات القرون إن رمت النطاح، فإن البغاث لا يستنسر، والفرق بين الفضّة والقضّة إن شاء اللّه متيسّر. وأمّا كون المولى أراد أن يقتدى به فما عليه إلاّ أن يؤمر الأثر كما قال المعتبر. وأمّا هذا فليتركه لصماحه ومرقه والمؤذنين بسحقه ومحقه، على أنّه إن رام منّا تبجيلا وتكريما فلا يكن للخائنين خصيما. وأمّا تعريضه بنقد الأصفر وحانة بنت الأصفر، فلسنا ممّن يقول أعد نظرا ولا راعنا، بل اسمع وانظرنا، فيا للّه، يمين برّ لم يفجر، ما وقفنا لها بدار ولا رشفنا لها رضابا ولا حسونا لها من عقار، ولقد علم المولى أنّ اليمين مأثمة أو مندمة، فنتلو له من الذكر الحكيم، وبذكر اللّه تطمئنّ القلوب يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبا، أو أطعتم بنا الوشاة أو سبقكم القلم ونبا، فأنتم في حلّ عن طيب قلب وصفاء لبّ، فلا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين. وأمّا التعبير بالمجون، الأولى منه التعبير بالمجنون، فليعلم مولانا، أنّ التأنّي خير له من التجنّي، وأنّه واللّه أعلم، ليس المعنيّ بذلك الخطاب، كما يفهم من الجواب، فليتأمّله تأمّل الألمعيّ، ولا يعجز عن وجود العذر إلاّ غبيّ أو عييّ، فما عهدنا بالمالك إلاّ أنّه ثقاب للآلي في حناديس الليالي بفكره المتلألئ الوقّاد ونظره المستجاد، خلّد اللّه أيّامه، وأسعده ببلوغ المنى ومرامه.
وإذ خرجنا من مراتع الهزل ومرابع الفصل، فإنّي سمعت من بعض المحبّين أنّ الخارجيّ الحاج الصالح السجنيّ قد تصدّى للردّ على التوهين وأنّ كتابه قد تمّ ولا مين، وأنّه يطبع في غرّة هذا الشهر بالجزائر فلتكن منه ببال وللّه الكمال، ولينشد مولانا: إن عادت العقرب عدنا لها * وكانت النعل لها حاضره. ينال بذلك سعادة الدنيا وشهادة الأخرى. هذا وليتغافل مولانا، فإنّي كتبته مستعجلا، ولا يسلم من الخطإ عجول، وقد قالت العرب: خير أبنائنا الأبله الغفول، وقال زهير: وذي خطإ في القول يحسب أنّه * مصيب بما يلمم به فهو قائله * عبأت له حلما وأكرمت غيره * وأعرضت عنه وهو باد مقاتله. مع اشتغال البال وتراكم الأهوال، والفقر يخرس الفطن عن حجّته، ويضلّ الهادي عن محجّته، فلكم أتمّ السلام من مقبّل أعتابكم عبد القادر بن إبراهيم وفّقه اللّه. آمين. ويسلّم عليكم الشيخ الطاهر بن العبيديّ وأخوه، وأخونا الروحيّ سيّدي ابن عيّاش بن الطيّب، والمحبّون تماما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1] الشيخ محمّد بن عبد الرحمن الديسيّ: 1270 1340 هـ/ 1845 1922م. راجع ترجمته في أعلام الجزائر لنويهض: 142 . وتعريف الخلف للحفناوي: 407/2.
[2] راجع ديوان منّة الحنّان المنّان، الجزء الثاني، فصل أشعار مختلفة، صفحة 100 .
[3] هو محمّد بن عبد اللّه ابن مالك أبو عبد اللّه جمال الدين الطائيّ الجيانيّ النحويّ: 600 672 هـ / 1203 1274م، صاحب الألفيّة في النحو، راجع ترجمته في الأعلام للزركلي: 233/6 .
[3] هو أحمد بن محمّد أبو العبّاس ابن الونّان التواتي الحميريّ المتوفّى سنة 1187 هـ/ 1773 م، قال الزركلي عن قصيدته في أعلامه، الجزء الأوّل، صفحة 243 وهو يترجم له: (...اشتهرت وشرحها جماعة منهم البطاوري والسلاوي صاحب الاستقصا وطبع شرحه في مجلّدين...).
[4] هو الطاهر بن عليّ بن أبي القاسم بن العبيديّ الجزائرىّ: 1304 1387 هـ / 1885 1968 م، راجع ترجمته في تاريخ الجزائر الثقافي الجزء السابع صفحة 132 وعدّة مواضع أخرى منه. وفي مقدّمة طبعة النصيحة العزّوزيّة، له، من صفحة 5 إلى 8، نشر أبي مدين الجلالي، مطبعة حجازي، مصر. وفي مقدّمة طبعة رسالته المسمّاة الستر، تحقيق محمّد محدّه، نشر دار البعث، قسنطينة، 1405هـ/ 1985 م: ص5 إلى ص8 .
[5] هو أحمد بن محمّد بن أحمد بن أبي حامد العدويّ أبو البركات الدردير: 1127 1201هـ/ 1715 1786م، [ راجع ترجمته في أعلام الزركلي: 244/1].
انتهت الرسالة التي أرجو أن يحسن موقعها لدى طلاّب الأدب، كما أرجو أن يصلني من كانت له معرفة بالرجل أو بتراثه بما لديه وإن قلّ مشكورا.
إعداد: محمّد فؤاد القاسميّ الحسنيّ.
إعداد: محمّد فؤاد القاسميّ الحسنيّ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق