الأربعاء، 25 مارس 2009

بسم الله الرحمن الرحيم
تحفة المحبّين المهتدين وتذكرة المتيقظين المقتدين
بشرح أبيات القطب الأكبر محيي الدين
تأليف
أبي الحسن الشاذليّ وابن زكري التلمساني والإمام السنوسيّ والشيخ الديسيّ
الإيداع القانونيّ: 1583-2005
الرقم الدوليّ: 6-1-9604-9961 ISBN:
الرقم الموضوعيّ: 260
الموضوع: التصوّف.
العنوان: تحفة المحبّين المهتدين وتذكرة المتيقظين المقتدين بشرح أبيات القطب الأكبر محيي الدين
المؤلّف: الديسي وآخرون.
عدد الصفحات: 24.
قياس الصفحة: 15/20.
الطبعة الأولى: 1425/2005
الغلاف: صورة من الصفحة الأولى من المخطوط.
جميع الحقوق محفوظة لدار الخليل للنشر والتوزيع. ص . ب: 86 . بوسعادة. ولاية المسيلة 28200 . الجزائر.
تمهيد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين،
قال مولانا سبحانه وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43، والأنبياء: 7]، وإنّ كثيرا من الناس لينأون عن الصواب، ويجانبونه أحيانا بالتسرّع في إطلاق الحكم على كلام بعض العارفين، أو بعض كلام العارفين، ولقد قال أحدهم وهو يصفهم في أبيات، منها: وألسنة بأسرار تناجي * تغيب عن الكرام الكاتبين... فناهيك عن غيرهم. ولعلّ أبيات الشيخ الأكبر من تلك، ولعلّ شرح هؤلاء السادة الأخيار الواصلين ممّا يقرّب معانيها إلى أذهان من تعلّقت قلوبهم بجمال الحضرة الإلهيّة وخضعت لجلالها... الناشر وصف المخطوط ربّما كان هذا المخطوط من نوادر تراثنا الجزائريّ الإسلاميّ، حيث افتقدنا ذكره في فهارس المخطوطات التي بحوزتنا، وهذا ما شجّعنا أكثر على نشره، إفادة في العلم، وتعليما للخلف، وبرورا بالسلف، وإثراء لمكتبتنا الجزائريّة، ولمّا كانت نسختنا هذه فريدة، فلقد اعتمدناها للنشر على ما هي عليه، وهي حديثة النسخ حيث كتبت في آخر المحرّم 1316هـ، نحو عام 1897م. وناسخها هو أحمد بن أبي الأخضر بن العربيّ الشريف الهامليّ. كتبها بخط مغربي حسن واضح ومقروء، بمداد أسود وأحمر. في سبع ورقات. في كلّ ورقة 20 سطرا، في كلّ سطر نحو عشر كلمات، على ورق من ثمانية ألياف مفردة، مقاس المخطوط: 225/160ملم. ومقاس النصّ المكتوب: 160/117ملم. والمخطوط مستقلّ، بدون تجليد، وضع تحت رقم: 38ب، في فهرسة مخطوطات المكتبة القاسميّة.
شرح الشاذلي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم
سئل الأستاذ الشيخ الأكبر العارف بالله تعالى، سيّدي أبو الحسن الشاذليّ[1]، رضي الله عنه ونفعنا ببركاته وحشرنا في زمرته، عن معنى أبيات الغوث الأكبر الشيخ سيّدي محيي الدين بن العربيّ، رضي الله عنه [2]، وهي قوله:
تطهّر بماء الغيب إن كنت ذا سرّ ~ وإلاّ تيمّم بالصعيد وبالصخر
وقدّم إماما كنت أنت إمامه ~ وصلّ صلاة الفجر في أوّل العصر
فهذي صلاة العارفين بربّهم ~ فإن كنت منهم فانضح البرّ بالبحر
فأجاب رحمه الله بما نصّه: المراد بالوضوء طهارة أعضاء الصفات القلبيّة من النجاسات المعنويّة، وماء الغيب هو خلوص التوحيد، فإن لم يخلص لك بالعيان فتطّهر بصعيد البرهان، وقدّم إماما كان يوم الخطاب إمامك، ثمّ صرت أنت إمامه بعد سدّ الحجاب، وصلّ صلاة الفجر التي هي صلاة كشف الشهود بعد حجاب ظلمة الوجود في أوّل العصر الذي هو أوّل زمان انفجار فجرك، ولا تتأخّر لآخر دورك، لأنّ الحكم للوقت، والتأخير له مقت، فهذي صلاة العارفين بربّهم، وهم الذين لم يخرجوا عن متابعة الأحكام الشرعيّة في جميع مشاهد شهود الربوبيّة، فإن كنت منهم وقمت بأدائهم فانضح، يعني اغسل بماء بحر الحقيقة ما تدنّس من برّ الشريعة. انتهى والله أعلم.
شرح التلمساني
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم
سئل الشيخ سيّدي أحمد بن محمّد بن زكري[3] رحمه الله، عن معنى أبيات العارف سيّدي محيي الدين بن العربيّ، رضي الله عنه، وهي قوله: تطهّر بماء الغيب إن كنت ذا سرّ وإلاّ تيمّم بالصعيد وبالصخر وقدّم إماما كنت أنت إمامه وصلّ صلاة الفجر في أوّل العصر فهذي صلاة العارفين بربّهم فإن كنت منهم فانضح البرّ بالبحر فأجاب رحمه الله بما نصّه: الحمد لله، شرح الأبيات المقيّدة أعلا هذا، يتوقّف على بيان مقدّمة باختصار، بها يتبيّن بعض ما يتضمّنه من المعارف والأسرار، فنقول: قد تقرّر أنّ العالَم أقسام، فمنها عالم الغيب، ويسمّى عالم الأمر وعالم الملكوت، ومنها عالم الشهادة ويسمّى عالم الخلق وعالم الملك، وهو قسمان، عاقل كالإنسان، وغير عاقل كالبهيمة، والأوّل شريف، والثالث خسيس، والثاني متوسّط، وإنّما كان الأوّل شريفا لأنّه عقل بلا شهوة كالملَك، وكان الثالث خسيسا لأنّه شهوة بلا عقل، وكان الثاني متوسّطا لأنّه قد ركب في العقل والشهوة، فمنه كامل ومنه ناقص، والكامل هو من اتّصف بالقوّة العلميّة والعمليّة، فإمّا أن يقدر على تكميل غيره وهو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإما أن لا يقدر على تكميل غيره وهو الوليّ الذي غلب عقله شهوته، فيصير بذلك كالملَك، وأمّا من غلبت شهوته عقلَه من الناس فهو الناقص، فيكون كالبهيمة وأخسر منها، كما قال الله تعالى فيمن كان بذلك الوصف: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44]، وإنّما كانوا أضلّ من حيث القوّة العاقلة، فهم قابلون للكمال ولم يحصل لهم، بخلاف الأنعام، فإذا تقرّرت هذه المقدّمة، ظهر بها معنى الأبيات المسئول عنها، فإنّ المقصود منها التنبيه على ما يكون به كمال العالم الإنسانيّ، وهو حصول الاتّصاف بعالم الغيب، الذي هو عالم الملائكة، كما قال الله عزّ وجلّ فيهم: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وما اتّصفوا بذلك الوصف إلاّ من حيث عصمتهم من الشهوات الموجبة للمخالفات، فلمّا حصلت لهم هذه الطهارة كانوا لها في حضرة الله، فلا يصحّ لغيرهم الدخول فيها إلاّ إذا تطهّر بطهرهم، فلهذا قال صاحب الأبيات: تطهّر بماء الغيب إن كنت ذا سرّ، فأمر بالتطهير الذي هو التنزّه عن الأوصاف البشريّة والعلائق البدنيّة، وهو المعبّر عنه بماء الغيب، لأنّ نسبة التنزّه الموصوف في تحصيل الطهارة التي يصحّ بها الدخول في الحضرة الإلهيّة كنسبة التطهير بالماء في صحّة دخول الصلاة به، ولمّا لم يرتفع الحدث المانع من الصلاة إلاّ بالطهارة المائيّة بمقتضى علم الشريعة، لم ترتفع الأحداث المانعة من الحضرة الإلهيّة بمقتضى علم الحقيقة إلاّ بالطهارة الموصوفة. وقوله: إن كنت ذا سرّ، أي ممّن فهم سرّ الحقيقة وأدرك المعنى الذي من أجله كان الخلق وحكمة العبادة والعبوديّة، كما قيل: بذلك سرّ طال عنك اكتتامه ولاح صباح كنت أنت ظلامه فأنت حجاب القلب عن سرّ غيبه فلولاك لم يطبع عليه ختامه قوله: وإلاّ تيمّم بالصعيد وبالصخر، يشير إلى أنّ من لم يستطع الطهارة الموصوفة كان حكمه حكم من لم يستطع الطهارة المائيّة، فإنّه يتيمّم بالصعيد وبالصخر وهو التراب الحجر، والمقصود بذلك التنبيه على أنّ العبد إذا لم يصبر على ترك سائر الشهوات فإنّه يرخّص له في بعض الشهوات المباحات كما يرخص للعاجز عن الطهارة المائيّة في التيمّم ويدخل به الصلاة ولم يرتفع حدثه، فتكون طهارته ناقصة بالنسبة إلى المتطهّر بالطهارة المائيّة، فكذلك المتطهّر بماء الغيب قد رفع تطهّره سائر أحداث الشهوات بخلاف أهل المقام الثاني، فإن لم ترتفع عنهم الأحداث بنسبتهم إلى أهل المقام الأوّل كنسبة المتيمّم للمتوضّئين، وهذا كلّه في غير المعصوم، أمّا المعصوم كالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلا ينقصه شيء من اللذات المباحات التي أباح الله له، شرط إن تعاطاها أو شيء منها من أجل العصمة والجلالة اللتين خصّه [بهما]، وكذلك من حفظه الله من الأولياء، فإنّه لا تؤثّر اللذّات الجسمانيّة في قلبه إن تعاطاها، فالمحفوظ في ذلك من الأولياء يكون حاله كحال المعصوم في بعض الوجوه، ووجه التشبيه بين المتيمّم والمتعاطي لبعض اللذات المأذون فيها شرعا هو أنّ النفس الإنسانيّة سماويّة وطينتها أرضيّة، فمن مال إلى بعض ما أذن له فيه من اللذات الجسمانيّة يحسن تشبيهه بالمتيمّم بالتراب، فيصحّ فيه إطلاق لفظ التيمّم بالتراب ونحوه، ولمّا كانت صلاة المتيمّم ناقصة لم ينبغ له أن يصليها فذّا لئلاّ يتضاعف النقصان، تأكّد فيه الاقتداء بإمام، كذلك صاحب المقام الثاني الذي تيمّم بعض اللذات المباحات لا ينبغي له الانفراد بها عن الإمام الذي يقتدى به وهو العقل. وقوله: كنت أنت إمامه، يعني به النفس لأنّها كالملِك والعقل لها كالوزير العادل يقدمه الملك في الأمور فيكون إمام الملك الذي هو إمام الوزير، فشأن النفس الإنسانيّة إن ساعدها التوفيق أن تتّبع العقل فيما ينهاها عنه ويأمرها به لأنّها مجبولة على السير إلى الراحة واللّذة الحسيّة، فإذا [نهاها] عن فعل تتلذّذ به في الحال أحبّته وآثرته، وإن كان يوجب لها الألم في المآل، والعقل ينهاها عنه، وعكسه، إذا أرادت فعلا يوجب لها الألم في الحال نفرت منه والعقل يأمرها به، ولهذا كان جهاد النفس أعظم الجهاد، ومجاهدتها بترك الشهوات الجسمانيّة واللذات الحسيّة التي هي كمال للبدن، وبتركها يكون كمال النفس، قال الشيخ أبو الحسن الشستري[4]: "كمال البدن هو نقصان للنفس[5]، ونقصان البدن هو كمال للنفس، وكلّ ما ينقص النفس يكمل به البدن، وكل ما يكمل به النفس ينقص به البدن"، كما قيل: كمّل حقيقتك التي لم تكمل والجسم دعه في الحضيض الأسفل أتكمل الفاني وتترك باقيا هملا وأنت بأمره لم تحفل يفنى وتبقى دائما في غبطة أو شقوة وندامة لم تنجل وقيل في هذا المعنى أيضا: يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته وتطلب الربح مما فيه خسران عليك بالنفس فاستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان[6] وقول صاحب الأبيات: وصلّ صلاة الفجر في أوّل العصر، المراد بالصلاة صلاة المتيمّم الذي تعذّر عليه التطهير بماء الغيب فلم ترتفع عليه أحداث الشهوات، فأشار إلى مجاهدته لنفسه بما ذكر، والفجر يعني به نور العقل الذي يذهب ظلمة الشهوة، فعبّر عن نور العقل بالفجر، ووجه التشبيه بينهما ظاهر، لأنّ بنور العقل تذهب ظلمة الشهوة من القلب كما تذهب ظلمة الليل بنور الفجر، والتعبير بأوّل العصر عن أوّل وقت حضور الشهوة بالقلب، فتصير داءً عضالا، وإنّما قال في أوّل العصر ولم يقل في أوّل الظهر وإن كان مناسبا لظهور الشهوة، لأنّ في لفظ العصر ما يؤذن بتعلّقها بالقلب كتعلّق النجاسة بالثوب، فيحتاج إلى غسله وعصره حتّى لا يبقى منها ومن غسالتها أثر. وقوله: فهذي صلاة العارفين بربّهم... إلخ، الإشارة إلى الصلاة الواقعة في كلامه بالتطهير بماء الغيب فهي أفضل الصلوات وأكملها، ويليها الواقعة بالتيمّم خلف إمام كان مأموما كما في بعض صور الاستخلاف في الصلاة كما تقدّم. وقوله: فإن كنت منهم فانضح البرّ بالبحر، أي، فإن ارتقيت إلى مقام العارفين بالله وصلّيت صلاتهم بشرطها وهو الطهر الحاصل بماء الغيب الموجب لرفع الشهوات وجنابة الغفلات، وصليت الصلاة الثانية بشرطها، فتصل بذلك وغاية مطلوبك أن تصير من أهل حضرة ربّك، بأن تنضح أي تغسل أوضار بدنك ببحر معرفتك، فيكون الأمر طوع يدك فتأخذ منها بالإذن والتمكين ولا تأخذ شيئا منك. اللهمّ إني أسألك توفيقا يهدي إلى السنن الرشيد وصلّ اللهمّ على السيّد الفاتح الخاتم نبيّنا ومولانا محمّد عبدك وعلى آله وصحبه كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد.
شرح السنوسي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم
سئل العارف الشيخ سيّدي محمّد بن يوسف السنوسيّ الحسنيّ رضي الله عنه[7] عن معنى أبيات الغوث الشيخ سيّدي محيي الدين بن العربيّ، رضي الله عنه، وهي هذه: تطهّر بماء الغيب إن كنت ذا سرّ وإلاّ تيمّم بالصعيد وبالصخر وقدّم إماما كنت أنت إمامه وصلّ صلاة الفجر في أوّل العصر فهذي صلاة العارفين بربّهم فإن كنت منهم فانضح البرّ بالبحر فأجاب رحمه الله بما نصّه: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، هذه أبيات أشار صاحبها ـ والله أعلم ـ إلى أنّ غفلة القلب جنابة في حقّ المريد تمنعه من الدخول في حضرة الله تعالى، أي دائرة ولايته والتمتّع بجمال ذاته وصفاته، ولا مطمع للمريد في دخول هذه الحضرة القدسيّة حتّى يتطهّر من هذه الجنابة بعد إعراضه عن المعاصي والشهوات، وقد أشار الشيخ ابن عطاء الله إلى هذا المعنى في قوله: "كيف يشرق قلب صور الكائنات منطبعة في مرآته، أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبّل بشهواته، أم كيف يطمع أن يدخل في حضرة الله وهو لم يتطهّر من جنابة غفلته"، وكما أنّ التطهير من الجنابة المعروفة يكون بأصل وهو استعمال الماء الطهور الذي يرفع الحدث وينظّف البدن، وببدل وهو التيمّم بالتراب أو الصخر الذي تستباح به العبادة ولا يرفع حدثا ولا يوجب نظافة، فكذلك التطهير من هذه الجنابة المعنويّة المنسوبة للغفلة يكون بأصل عمارة القلب بضدّ الغفلة ممّا يطردها ويرفع حدثها وأثرها من الذكر والفكرة والمعارف الربّانيّة والفتوحات اللدنيّة، وهذه طهارة العارفين لصفاء أسرارهم وبعدها عن كلّ شاغل، وببدل وهو عمارة الجوارح الظاهرة بالمجاهدة والرياضة والزهد وإدمان الذكر اللسانيّ، وهذه طهارة المريد الذي يصل إلى درجة أهل المعرفة، وهو المطلوب بهذه الطهارة، لأنّ انتظاره بالعبادة صفاء سرّه يؤدّي إلى تأنيس النفس بكمال الغفلة عن العبادة فيعسر رجوعها إلى الخير بعد ذلك ولو في حال صفاء السرّ، كما أنّ انتظار المحدث الفاقد للماء بالعبادة وجود الماء الطهور يوجب له تأنّس النفس بالراحة والبطالة فيعسر إذعانها للمحافظة على الصلاة ولو وجد الماء الطهور، وإذا تطهّر العارف لصفاء سرّه بما يليق به من مياه المعارف الربّانيّة وكذلك مباديء أحوال النهاية ولم يصل بعد إلى رتبة الفناء والبقاء، اللذين هما منتهى سفر، هنالك لم ينبغ له أن يترك كلّ ما كان يعمل في مباديء سلوكه من الأعمال المتعلّقة بالظاهر، ومبدأ سلوكه شبيه بوقت صلاة الفجر، لأنّه أوّل انتباه من نوم الغفلات وقريب من ظلمات اللّيل ولم يخل من شيء منها، وكذلك أعمال البداية قريبة من ظلمات النفس ولم تخل من بعضها، وأوّل مقامات العارف شبيه بوقت صلاة العصر، لأنّه آخر النهار ومحلّ محطّ الرحال، وهذه الأعمال الابتدائيّة، وإن كانت من المبتديء والعارف مطلوبا بها وبعملها، فالفرق بينهما أنّ المبتديء يعملها في أوائل الانتباه ومحل القرب من الظلمات فلا تصفو له كلّ الصفاء، والعارف يعملها في أواخر النهار وبعد كمال الانتباه ومشاهدة امتلاء الآفاق بضوء الشمس، فلهذا قال مخاطبا للعارف: وصلّ صلاة الفجر في أوّل العصر، وجعل الصلاة في أوّل هذا الوقت صلاة العارفين، وهو كذلك، لأنّ من دونهم إنّما يعمل تلك الأعمال قبل أن يشاهد أوائل طلوع شمس المعارف فضلا عن انتهائها. قوله: قدّم إماما كنت أنت إمامه، فتوصية منه نافعة جدّا، هلك بعدم مراعاتها كثير ممّن ضلّ، وهو أنّهم إذا لاح لهم شيء من روائح أهل المعرفة اغترّوا بذلك وتركوا الاقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام، وابتدعوا أمورا لأنفسهم فهلكوا بسبب ذلك، فلهذا أوصى في هذه الأبيات، العارف، يقدّم في جميع أعماله الرسول عليه الصلاة والسلام إماما له، فيقتدي بأقواله وأفعاله ويرتبط به ولا يخالفه بوجه من الوجوه. وأمّا قوله: كنت أنت إمامه، فمعناه لأنّ العارف كان في حال ابتدائه بعقله عند جهله البرهان القطعيّ على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام إمام الرسول لأنّه يطلب منه الحكم والاستدلال على صدقه، والحاكم إمام المحكوم له وعليه، فلمّا حكّم العقل أوّلا، ونظر واهتدى بالبرهان القطعيّ إلى صدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وعرف شرف رتبته عند الله تعالى، احتشم في تقدّمه أوّلا، وتقهقر إلى وراء، وعزل نفسه عن كلّ نظر، وأسلم نفسه إلى الرسول وقدّمه أمامه وحكّمه في باطنه وظاهره. وأمّا قوله: فإن كنت منهم فانضح البرّ بالبحر، فيعني به ـ والله أعلم ـ إن كنت من العارفين فلا تترك الجمع بين الشريعة والحقيقة، فالشريعة برّ والحقيقة بحر، لأنّ السير بها يوم بشهر وبأكثر منه، بخلاف البرّ، ولا شكّ أنّ ظاهر الشريعة لما يوجد فيها من الإسناد للأعمال السببيّة لها شرط، فإذا نضح ظاهرها بماء بحر الحقيقة التوحيديّة كملت محاسنها واستقام للعارف إعمالها، وبالله تعالى التوفيق، لا ربّ غيره ولا معبود سواه.
شرح الديسي
بسم الله الرحمن الرحيم وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم
شرح الأبيات المتقدّمة للشيخ سيّدي محمّد بن عبد الرحمن الديسيّ[8] رضي الله عنه. الحمد لله بأفضل المحامد، حمدا يوافي النعم ويكافيء المتزايد، والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمّد أجلّ كلّ محمود وأكمل كل حامد، وعلى آله وأصحابه وتابعيهم على هديهم القويم الحسني العقائد والمقاصد. أمّا بعد، فهذه تحفة المحبّين المهتدين وتذكرة المتيقظين المقتدين بشرح أبيات القطب الأكبر محيي الدين، والذكرى تنفع المؤمنين والإنصاف حلية المتّقين، قال رضيّ الله تعالى عنه وأمدّنا من أسراره: تطهّر، أمر بتحصيل الطهارة، والصيغة تعطي التكلّف وتعني إيماء إلى مزيد المكابدة ودوام المجاهدة، بماء الغيب، الوحي الشامل للحديث، {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3. 4]، استعير له الماء بجامع الإحياء في كلّ، لأنّ حياة القلوب والأرواح بما يتلقى من الأنبياء، كما أنّ حياة الأرض وما عليها بما ينزل من قطر الماء، وأضيف إلى الغيب لخفاء كنهه عن مدارك العقول. إن كنت ذا سرّ، أي مقام إحسانيّ وفتح ربّانيّ وفيض رحمانيّ وتوفيق خاص، تفهم عن ربّك فهم الخواص، ومعنى التطهّر بالوحي التخلّق به والتحقّق بمعانيه والتأدّب بآدابه فعلا وتركا وإقداما وإحجاما ومضيّا ووقوفا، فمن تخلّق به تطهّر من الرذائل وتحلّى بالفضائل وصلح لدخول الحضرة وتأهّل للمناجاة واستحقّ كمال المصافاة، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها في صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه) [9]، فجمعت رضي الله تعالى عنها بحارا زاخرة من المعاني لا يحاط بها في لفظ يسير، وبه يظهر سرّ اختصاصها بمزيد القرب والحبّ من رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم، وإنّها جديرة بذلك لما خصّت به من سعة العلم ودقّة الفهم، سرّ سرى لها من سرّ الوجود صلّى الله تعالى عليه وسلّم، فإنّ في قولها رضي الله تعالى عنها (كان خلقه القرآن)، إشارة إلى أنّه صلّى الله عليه وسلّم أفضل الخلق على الإطلاق وأكمل النبيئين والمرسلين وسيّد ولد آدم أجمعين، وإنّه الجامع لما تفرّق في غيره من الكمالات لتخلّقه بالكتاب الجامع لما جاءوا به من الهدى والنور، زيادة على ما اختصّه الله به من الاصطفاء والإكرام بمقام المحبّة الذي لم يشارك فيه، زيادة على الخلّة الخليليّة. ويؤيّد ما ذكر قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، والسنّة المطهّرة مبيّنة للكتاب العزيز ومفسّرة له لتبيّن للناس ما نزل إليهم. وإلاّ, أي وإلاّ تقدر على التطهّر بماء الغيب لقيام مانع من مرض أو سفر أو عدم ماء، تيمّم، أي تمسح، بالصعيد، ما صعد على الأرض من سائر أجزائها، وبالصخر، الحجر، فظهر أنّ المتيمّمين أشخاص ثلاثة مريض ومسافر وفاقد، فالمريض العالم الذي ملكته نفسه وهواه وغلبت عليه الشهوات والرعونات ومال إلى الحظوظ وأخلد إلى الأرض، والمسافر الجاهل الذي لم يتعلّم قطّ، والفاقد الجاهل الذي لم يجد معلّما، فهؤلاء الثلاثة يكفيهم القصد إلى العمل بظاهر الشريعة لعجزهم عن ذوق أسرارها وبعدهم عن استطلاع سواطع أنوارها ولا يخرجون عنها فيهلكوا مع الهالكين، مع أخذهم إن وفقوا في أسباب التطهير بأن يجاهد العالم نفسه وهواه ويتعلّم الجاهل ويرحل من لم يجد معلّما إلى من يرشده إلى معالم دينه، والصعيد الأفضل للعالم والصخر المفضول لمن بعده. وقدّم إماما كنت أنت إمامه، أي قدّم على نفسك جميع الخلق واعتقد أنّك دونهم وأنّهم خير منك، إذ لعلّهم أطوع لله عزّ وجلّ منك، ولا تدري هل عملك مقبول أو مردود وأنت شقيّ في الأزل أو سعيد، ولا بماذا يختم لك، ومن لم ينظر بهذا النظر رأى نفسه إماما أي مقدّما على كلّ أحد، ومن وفّق للنظر به رأى نفسه مأموما أي متأخّرا، وهذا إشارة إلى مقام التواضع الذي هو أشرف المقامات وينبوع الخيرات وهو الوسيلة إلى ما بعده من المقامات، وبمقام التواضع يكون قابلا للإمدادات الربّانيّة كما تقبل الأرض المطمئنّة المنخفضة الغيث دون قلل الجبال الشاهقة، وبه يدخل تحت تربية المشائخ العارفين ويحسن صحبة المريدين، وضدّه وهو الكبر، والعياذ بالله تعالى، على عكسه، فهو أساس الرذائل وينبوع القبائح والمفاسد، (ولا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرّة من كبر) [10]، حديث صحيح، فكذا لا يشمّ رائحة الطريق فضلا عن أن يدخل حضرة القرب والتحقيق. وصلّ صلاة الفجر في أوّل العصر، إشارة إلى استعمال الحزم والتشمير عن ساعد الجدّ والمبادرة إلى الأعمال وترك التواني والامهال، فالوقت سيف والمرء في الدنيا ضيف، اجعل حالك ومثله بحال حازم يحصل الطهارة التي يصلّي بها الفجر في أوّل وقت العصر، فالإمهال إهمال، {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[آل عمران: 133]. فهذي صلاة العارفين بربّهم، أي حالتهم في معاملتهم مع ربّهم التي لا يخرجون عنها ما داموا في هذه الدار، فإن كنت منهم، تحقّقا وتخلّقا لا تمخرقا وتحذلقا، فإن الدعوى بلوى، من تحلّى بكلّ ما ليس فيه * أكذبته شواهد الامتحان فانضح، اسق من النضح، وهو السقي، والناضح البعير الذي يسقى عليه، البرّ بالبحر، كنى بالبرّ عن القلوب الميّتة وبالبحر عن المعارف الإلهيّة والعلوم اللدنيّة، فكما أنّ الأرض الميّتة بالجدب تحيا بنضحها بماء البحر العذب، كذلك القلوب الميّتة بالجهل تحيا بنظر العارف الكامل ورأيه[11] وكلامه، لأنّ نظره دواء وكلامه شفاء وحاله ترياق للعلل المزمنة، فالزم بابه بأدب تظفر بالمنى ويزول عنك العنى، فالعارف الصادق الذي ينفع اللهُ تعالى به العباد والبلاد، دون المدّعي، والعلامة المميّزة ما ذكر. تنبيه سديد وبه يختم التقييد المفيد، من انتمى لعارف كامل وصاحبه أمدا طويلا مدعيا كمال المحبّة والصدق في الخدمة ولم يتأدّب ببعض آدابه ولا شمّ رائحة من سنى أخلاقه ولا أشرقت عليه أنواره ولا ظهرت فيه أسراره، بل بقي على الاتّصاف بأمّهات الرذائل من الكبر والحسد والنميمة والغيبة والكذب، دلّ على فساد النيّة وخبث الطويّة واختلال العقيدة وانحلال الرابطة وأنّه مَريد لا مُريد، طالب دنيا لا طالب هدى، لوكان حبّك صادقا لأطعته * إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع علامة حبّ الله حبّه حبيبه، لأنّ المحبّة الصادقة تستلزم المتابعة الكاملة، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}[آل عمران: 31]، ويكفي شاهدا حال الصحابة والمنافقين، اشترك الجميع في ظاهر الصحبة، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم صدقوا في أحوالهم فصاروا هداة مهتدين، والمنافقون كذبوا فجعلوا أعداء مبعدين، ويأبى الذي في القلب إلاّ تبيّنا * وكلّ إناء بالذي فيه يرشح غيره: ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم والله الموفّق والمعين لا ربّ غيره، نسأله سبحانه وتعالى لنا ولأحبّتنا حسن الخاتمة في عافية بلا محنة بالنبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلّم وآله والبخاري ورجاله، حرّر إملاء من الفقير لرحمة ربّه محمّد بن عبد الرحمن بمقام شيخنا وعمدتنا العارف بالله تعالى محيي الدين وأنس المؤمنين سيّدي محمّد بن أبي القاسم الشريف[12] فسح الله في أجله وأدام عمارة مقامه، قرب الزوال لخمس بقين من رمضان المعظّم عام 1310هـ عشرة وثلاثمائة وألف، وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين.
الهوامش
[1] هو عليّ بن عبد الله بن عبد الجبّار بن يوسف بن هرمز أبو الحسن الشاذليّ المغربيّ: 591­656هـ/1195­1258م. راجع ترجمته في أعلام الزركلي، ط7، دار العلم للملايين، 1986، بيروت: 305/4. ولواقح الأنوار في طبقات الأخيار، تأليف عبد الوهاب الشعراني، جزآن في مجلّد واحد، طبع بعناية إبراهيم عبد الغفّار الدسوقي، الطبعة الثانية 1286هـ، القاهرة، مصر : 4/2. وشجرة النور الزكيّة في طبقات المالكيّة، تأليف الشيخ محمّد بن محمّد مخلوف، المطبعة السلفيّة 1349هـ. القاهرة: 620/186.
[2] هو محمّد بن عليّ بن محمّد بن عربي أبو بكر محيي الدين الحاتميّ الطائيّ الأندلسيّ: 560­638هـ/1165­1240م. راجع الزركلي: 281/6. شجرة النور: 475/155. طبقات الشعراني: 2081.
[3] هو أحمد بن محمّد أبو العبّاس بن زكري التلمسانيّ: 899هـ/1493م. راجع ترجمته في: الزركلي: 231/1. ومعجم أعلام الجزائر من صدر الإسلام حتى العصر الحاضر، تأليف عادل نويهض، الطبعة الثالثة 1983، مؤسّسة نويهض، بيروت: 159. وتعريف الخلف برجال السلف، تأليف أبي القاسم محمّد الحفناوي الديسيّ، جزآن في مجلّد واحد، الطبعة الأولى 1982، مؤسّسة الرسالة، بيروت: 42/1. وشجرة النور: 987/267.
[4] هو عليّ بن عبد الله أبو الحسن النميريّ الششتريّ: 610­668هـ/ 1213­1269م. راجع ترجمته في الزركلي: 305/4.
[5] في النسخة: "... قال أبو الحسن الشستريّ توكد فإنّ كمال البدن... " ويبدو أنّ الزيادة سهو من الناسخ فحذفناها ليستقيم المعنى.
[6] في النسخة: "... عليك بالنفس تكمل فضيلتها... "، ولعلّ الصواب ما أثبتناه.
[7] هو محمّد بن يوسف بن عمر بن شعيب أبو عبد الله السنوسيّ الحسنيّ التلمسانيّ: 832­895هـ/1428­1490م. راجع ترجمته في: الزركلي: 154/7. وأعلام الجزائر: 180. وتعريف الخلف: 179/1.
[8] هو محمّد بن محمّد بن محمّد بن عبد الرحمن أبو عبد الله السلاميّ الديسيّ الجزائريّ: 1270­1340هـ/1845­1922م. راجع: أعلام الجزائر: 142. وتعريف الخلف: 407/2.
[9] رواه الإمام أحمد عن عائشة أمّ المؤمنين: 23460. والنسائي: 1583. وأبو داود: 1144. والدارمي: 1439.
[10] رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود: 131. والترمذي: 1922. وأبو داود: 3568. وابن ماجة: 58. وأحمد: 3600.
[11] في الأصل: ورايته، ولعلّ الصواب ما أثبتناه، أو رؤيته.
[12] هو محمّد بن أبي القاسم الشريف الحسنيّ الجزائريّ الهامليّ المالكيّ: 1293­1315هـ/ 1824­1897م. راجع: الزهر الباسم في ترجمة الشيخ محمّد بن أبي القاسم، تأليف الشيخ محمّد بن محمّد بن أبي القاسم، المطبعة الرسميّة، تونس، 1308. الزركلي: 9/7. تعريف الخلف: 352/2. أعلام الجزائر: 335.
-{تحفة المحبّين}-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق